هذه الدعوة كانت جديرة فى الحقيقة بالأنبياء ومواهبهم وقواهم ورسالتهم وإيمانهم وجهادهم وثباتهم وفقههم وحكمتهم وإخلاصهم ولكنها ليست خاصة بالأنبياء بل هى دعوة خلفائهم وأتباعهم كذلك ودعوة كل عصر ومصر وحاجة الإنسانية كلها والعصور كلها فلابد أن تجدد فى كل زمان وفى كل محيط وتكون على أساس دعوتهم مطابقة لسيرتهم مقتبسة من مشكاتهم فلنرجع الى هذا المصدر ولندرسه دراسة عميقة واسعة.
إذا تتبعنا أيها الإخوان سيرة الأنبياء عليهم السلام فى دعوتهم رأينا فيها جوانب كثيرة تمتاز بها سيرتهم وتقوم عليها دعوتهم وأريد أن أشارككم فى دراسة هذه السيرة وطبيعة هذه الدعوة فأعرض عن إذنكم بعض النقط المهمة التى تفرق بين سيرتهم ودعوتهم وبين سيرة القادة والمصلحين من عامة البشر منها:
1ـ الإلتجاء الى الله فى جميع مراحل الدعوة والجهاد بل فى جميع مراحل الحياة والإطراح على عتبة عبوديته إطراح الفقير الكسير والإرتماء فى أحضان رحمته إرتماء الطفل الصغيير فى احضان أمه والايمان القوى بأنه هو النافع الضار والناصر الخاذل وأن لا مانع لما أعطى ولا معطى لما منع ولا كاشف لضره ولا ممسك لرحمته ولا سهل إلا ما جعله سهلا وهو يجعل الحزن سهلا وينصر الضعيف على القوى والقليل على الكثير والضعيف مع نصرة قوى والقليل مع رحمته كثير هذا الإيمان كان يوحى إليهم بالإبتهال فى الدعاء وإطالة الوقوف ببابه وشدة الإلتزام بأعتابه والإلحاف فى المسألة ويلهم المعانى العجيبة والتعبيرات الرقيقة انظروا أيها الإخوان الى قول سيد الأنبياء وسيد الدعاه الى الله الى يوم القيامة وهو يمثل خير تمثيل لإيمانه وشعوره بفقره وضعفه وافتقاره الى رحمة الله " اللهم إنك
تسمع كلامى وترى مكانى وتعلم سرى وعلانيتى لا يخفى عليك شىء من أمرى وأنا البائس الفقير المستغيث المستجير الوجل المشفق المقر المعترف بذنبه أسألك مسألة المسكين وابتهل اليك ابتهال المذنب الذليل وأدعوك دعاء الخائف الضرير ودعاء من خضعت لك رقبته وفاضت لك عبرتهوذل لك جسمه ورغم لك أنفه اللهم لا تجعلنى بدعائك شقيا وكن لى رءوفا رحيما يا خير المسئولين ويا خير المعطين " واذكروا دعاءه صلى الله عليه وسلم فى الطائف " اللهم إليك أشكو ضعف قوتى وقلة حيلتى وهوانى على الناس يأرحم الراحمين الى من تكلنى الى عدو يتجهمنى أم الى قريب ملكته أمرى إن لم تكن ساخطا على فلا أبالى غير أن عافيتك أوسع لى أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات وصلح عليه امر الدنيا والآخرة من أن يحل بى غضبك أو ينزل على سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك " واذكروا موقفه فى بدر قال ابن اسحاق:
" ثم عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف ورجع الى العريش فدخله ومعه فيه أبو بكر وليس معه غيره ورسول الله صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ما وعده من النصر ويقول فيما يقوله: " اللهم إن تهلك هذهالعصابة اليوم لا تعبد ".
هذه كانت عدة الأنبياء عليهمالسلام وقوتهم ومفتاح دعوتهم فقد امتازت دعوتهم بتقديم الدعاء والاهتمام به والابتهال فيه وليس الدعاء إلا رمزا للإنابة الى الله والاعتماد عليه والاعتزاز به فامتازت دعوتهم وجهادهم فى سبيلها بطابعهما الروحى والإيمانى وقد روى أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع الى الصلاة وقال الله تعالى {واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 45] ولا شك أن مهمة الدعوة أعظم من أن يضطلع بها الإنسان بقوته الجسدية وعدته المادية وكفايته العلمية والعقلية لا يستقبل بها إلا بالقوة الروحية ونصر الله ومعونته وإن هذه الصخور العظيمة بل الأطواد الشامخة التى تقف فى سبيل الدعوة وتهجم على رؤوس الدعاة وتصطدم بجهودهم لا تذوب إلا بنصر الله الذى يستنزل بالدعاء والإلتجاء اليه.
2ـ امتازت دعوة الأنبياء وجهودهم بتجردها من التفكير فى المنافع المادية والثمرات العاجلة فكانوا لا يبتغون بدعوتهم وجهادهم إلا وجه الله وامتثال أوامره وتأدية رسالته تجردت عقولهم وأفكارهم من العمل للدنيا ونيل الجاه وكسب القوة لأسرتهم أو أتباعهم والحصول على الحكومة حتى لم يخطر ذلك ببال أصحابهم وأتباعهم وكانت هذه الحكومة التى قامت لهم فى وقتها والقوة التى حصلت لهم فى دورها لم تكن إلا جائزة من الله ووسيلة للوصول الى أهداف الدين وتنفيذ أحكامه وتغيير المجتمع وتوجيه الحياة كما قال الله تعالى: {الذين إن مكناهم فى الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر} [الحج: 41] ولم تكن هذه الحكومة قط غاية من غاياتهم أو هدفا من أهدافهم أو حديثا من أحاديثهم أو حلما من أحلامهم. إنما كانت نتيجة طبيعية للدعوة والجهاد كالثمرة التى هى نتيجة طبيعية لنمو الشجرة وقوة إثمارها وقد قال كاتب هذه السطور فى رسالته " بين الهداية والجباية " ما يحسن نقله هنا.