المتداولة» ([21]).

فاللغة ملك لمن يستعملها لذا نعتقد أن المعاصرين يلتحمون بالعربية إلحاماً لا يقل عما عرفته مع القدامى والعناية بها والعمل على سلامتها وتنميتها من الواجبات الأساسية الأولى للأمة العربية سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات. وقد شرح ابن حزم معادلة ضعف اللغة بضعف أهلها في كتابه "أصول الأحكام": «إن اللغة يسقط أكثرها ويبطل بسقوط دولة أهلها ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم أو بنقلهم عن ديارهم واختلاطهم بغيرهم، فإنما يفيد لغة الأمة وعلومها وأخبارها قوة دولتهم ونشاط أهلها وفراغهم، وأما من تلفت دولتهم وغلب عليهم عددهم واشتغلوا بالخوف والحاجة والأجل وخدمة أعدائهم، فمضمون منهم موت الخواطر وربما كان ذلك سببا لذهاب لغتهم ونسيان أنسابهم وأخبارهم وبيود علومهم وهذا موجود بالمشاهد معروف بالعقل ضرورة» ([22]).

النحو خلاصة علوم العرب

لا يخفى على المهتمين بالدراسات والأبحاث اللغوية أن للنحو منزلة مقدمة من علوم هذه اللغة فهو كما يقول عباس حسن في مقدمة كتابه "اللغة والنحو بين القديم والحديث": «وسيلة المستعرب وذخيرة اللغوي وعماد البلاغة، وأداء المشرع المجتهد، والمدخل إلى العلوم العربية والإسلامية جميعاً». ولهذا تفرغ له العلماء من أسلافنا يجمعون أصولهم ويثبتون قواعده ويرفعون بنيانه شامخا، فخلفوا لنا فيه تراثا غزيرا ما زال يحظى بالدراسة والبحث إلى يومنا هذا وكانت الدراسات النحوية في بدايتها شفوية بسيطة لا تعدوا أن تكون عبارة عن ملاحظات تتم خلال مدارسة القرآن، وما نشأ عنها من تساؤلات ومناقشات، ثم نمت وتدرجت شيئا فشيئا إلى أن وصلت مرحلة النضج والكمال. «الدارس يجد في قصة أبي الأسود الدؤلي مع الإمام علي حين شكا له لحن ابنته، وما سمعه من الناس بداية للتنبه إلى اللحن بوصفه ظاهرة متفشية في الناس. وعلى هذا يمكن أن نعد هذه البداية منطلقا لتحويل دلالة لحن إلى معنى الخطإ في الكلام، ويلاحظ أن التصنيف في اللحن كان مبكراً، إذ كان مرافقا لتدوين العربية على أيدي النحاة واللغويين. ومن المعروف أن أهم أسباب التدوين، هو الخوف على العربية الذي شاع بإقليم العراق قاعدة الخلافة شيوعا مروعا. ومن هنا نجد أن معظم أهل اللغة كانت لهم رسائل وتصانيف في اللحن بدءًا من الكسائي والفراء والأصمعي وأبي عبيد القاسم بن سلام وغيرهم» ([23]).

فغاية النحو إذا تقويم اللسان والقلم، والبعد عن اللحن، ولا تتحقق هذه الغاية في المتعلم إلا إذا اكتسب ملكة اللغة، لأنها كما يقول العلامة ابن خلدون " هي عبارة المتكلم عن مقصوده. وتلك العبارة فعل لساني، فلا بد أن تصير ملكة متقررة في العضو الفاعل لها، وهي اللسان وهو في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم، وكانت الملكة الحاصلة للعرب من ذلك أحسن الملكات وأوضحها إبانة عن المقاصد لدلالة غير الكلمات فيها على كثير من المعاني ... " ([24]).

وكان في بدايته تعليميا بسيطا ميسرا يعتمد على الصحيح المروي على ألسنة الفصحاء من العرب، كما كان الغرض منه ضبط اللغة بأقل القواعد وأسلمها وأيسرها حرصا عليها وتخفيفا على الناس الذين أحبوها وتعلقوا بها وفضلوها على غيرها وأرادوا أن يتحدثوا بها خالية من اللحن، فكانت الخطوات الأولى للدرس النحوي تتصل اتصالا مباشرا بالقرآن الكريم، إذ قامت لخدمته، وحمايته من اللحن والتصحيف، ثم تطورت فشملت بلاغته وإعجازه، وتعدت لدراسة تأويله وتفسيره، ثم دراسته دراسة صوتية لمعرفة مخارج الحروف وتأثير بعضها في بعض. وبالنظر إلى كتاب سيبويه باعتباره أول كتاب في نحو العربية يصل إلينا نجده يشتمل على هذه العلوم جميعا - وإن لم يسمها - ففي الكتاب نحو من أربعمائة آية قرآنية يسوقها سيبويه للتدليل على بعض قواعد النحو أو طرق التعبير والأساليب اللغوية المتبعة ([25])، وفيه إسناد لعدد غير قليل من أئمة اللغة ورواتها وعلماء الأدب والقراءات ([26]). والمشهود عن كتاب سيبويه أنه تام الصنعة في شموله وعمقه ودقة مصطلحه. قال عنه أبو عثمان بكر بن محمد المازني المتوفى سنة 249 ه: «من أراد أن يعمل كتابا كبيرا في النحو بعد كتاب سيبويه فليستحي» ([27])، وقال صاعد بن أحمد الجياني الأندلسي: «لا أعرف كتابا ألف في علم من العلوم قديمها وحديثها فاشتمل على جميع ذلك العلم وأحاط بأجزاء ذلك الفن غير ثلاثة كتب:

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015