قد آمن العقاد بأهمية التطوير المستمر لمعجم اللغة العربية حتى تكتسب لغتنا المرونة اللازمة لتلبية مطالب الحضارة ومطالب العلوم المتجددة. ويرى المرحوم إبراهيم السامرائي: «إن لغتنا العربية تواجه العصر الحديث بحضارته الخطيرة، وقد فرض علينا هذا العصر لغة جديدة كما كان الأمر في جل اللغات الحية المتطورة، ومن ثم كان علينا أن نملك المعجم الجديد. فهل تم شيء من ذلك؟ لم نفعل كثيرا في هذا السبيل. إن عربية اليوم غيرها بالأمس، وأنها حفلت بالجديد الذي يفرضه منطق العصر وحاجاته الكثيرة. وهذا الجديد يدخل في باب تطور الدلالة في الكلمة، والكلمة في تطور مستمر، ولا يحسبن أحدنا أن اللغة العربية الفصحى في عصرنا هي الفصيحة العريقة في مادتها ونظامها ونحوها وصرفها. إن شيئا كثيرا قد تبدل، وإن مادة لغوية كثيرة قد انطوت آثارها ولم يكن من حاجة بالمعربين إليها ... إن الدارس الحديث للعربية لا يعرف دلالة الألفاظ وما آلت إليه في العصر الحديث وذلك لعدم وجود معجم جديد لهذه اللغة. ثم إن المعجم القديم لا يسعف طالب الحاجة الجديد، بما يتوق إليه من معرفة لغوية يفرضها عصرنا الحاضر. ولعل بسبب من عدم وجود هذه المضان الجديدة تسرب الخطأ وانزلقت الدلالة مما وضعت إليه إلى شيء آخر فكان ذلك لونا من ألوان التطور السلبي ... ولو تهيأ لنا معجم جديد لضبطت الدلالات واستطاع الباحث عن المادة اللغوية أن يجد الصحيح فيتجنب الخطأ ([19])».
إن المعاجم القديمة كانت وما تزال حصونا صانت اللغة العربية من الشتات، ونقلتها إلى الأجيال مع ما تزخر به من غنى وتنوع وأصالة، مثلت مصدرا رئيسيا للتأليف المعجمي المعاصر الذي سعى إلى تحديث اللغة العربية وإن في حدود ضيقة، إلا أن سعيه ذلك لم يمكنه من أن يرتقي إلى مستوى المعجم اللغوي في الغرب مثل: (اكسفورد، ولاروس، وروبير) الذي سخر لها من الإمكانات البشرية والعلمية والمالية والتكنولوجية ما لا يتوفر حتى القليل منه للمعجم العربي. يحلم المعجميون العرب بصنع معجم لغوي كبير على غرار (اكسفورد) الكبير الإنجليزي و (لاروس) الثلاثي الفرنسي، و (بستر) الدولي الأمريكي، يتلافون بواسطته ما عيب على معجماتنا العربية القديمة من اتخاذها منتصف القرن الثاني الهجري (150 ه) حدا زمنيا لمن يحتج بلغتهم، وإغفالها الألفاظ التي دخلت العربية بعد ذلك، أو استعملها العرب بعد عصر الاحتجاج، إضافة إلى أن هذه المعجمات القديمة أغفلت التطور التاريخي للألفاظ التي ذكرتها، ولم ينهض أحد بعد ذلك بعبء ملاحقة التطور التاريخي للألفاظ نفسها في أثناء استعمالها عبر العصور اللاحقة، كما أنه لم تكن هناك عناية بهذا الأمر في المعجمات الحديثة. ومن ثم بتنا نجهل التطور التدريجي للمعاني المختلفة للفظة الواحدة، تبعا لفقدان الضبط الزمني لاستعمالها ... والحق أن الحلم بصنع معجم لغوي شامل قديم، فقد حاول المستشرق الألماني فيشير تجسيده، لكنه توفي قبل تحقيقه، فنقلت المواد التي جمعها ونظمها إلى مجمع اللغة العربية بالقاهرة (كان اسمه آنذاك مجمع فؤاد للغة العربية) لأن المادة الثانية من مرسوم إنشاء هذا المجمع (صدر المرسوم عام 1932 م) تنص على أن يقوم «بوضع معجم تاريخي للغة العربية، وأن ينشر أبحاثا دقيقة في تاريخ بعض الكلمات وتغير مدلولاتها»، وقد نجح مجمع القاهرة في تقديم تجربته عام 1965 م، ثم أصدر الجزء الأول عام 1970 م والثاني عام 1982 م، وما زال يسعى إلى إصدار أجزاء أخرى من المعجم الكبير، والأمل أن يكون هذا المعجم الكبير أباً للمعجمات العربية في القرن الحادي والعشرين؛ بل إن الأمل أن يكون المعجم الكبير معجمنا القومي في مقابل المعجمات القومية الأخرى ([20]).
إن صناعة المعجم تحتاج إلى تعاون عدد كبير من اللغويين والمختصين. والاجتهادات الفردية مهما علت تبقى قاصرة، فلا يقوى عليها إلا هيئات رفيعة المستوى كمجامع اللغة العربية ومكتب تنسيق التعريب، خاصة إن إخراج معجم دقيق متخصص على أي صورة ليس هدفا في حد ذاته، بل هو عمل مستمر ومتواصل ينمو كما وكيفا مسايرا للتقدم العلمي نفسه الذي ينمو ويتقدم بلا حدود. «إن كل معجم هو استجابة لثقافة عصره وخصاصته واهتماماته، والمادة المعجمية هي مادة احتياطية يلجأ إليها لإعادة صياغتها في منهج جديد ملائم لحاجات الثقافة
¥