عصره في مجال علوم اللغة، فقد قام بالعكوف على تنظيمها، يخترع فيها ويستنبط أصولها من فروعها على طريقة لم يسبق إليها، فكان أول مبتكر للمعاجم اللغوية، وأول مبتكر لعلم العروض، وحصر كل أشعار العرب في بحوره، وهو الذي اخترع علم الموسيقى العربية، وجمع فيه أصناف النغم، وهو الذي عمل النحو الذي نعرفه اليوم ([9]). رائد لا يدانيه أحد، شغل العلماء والدارسين في كل الفنون التي برع بها، لم يطرق باب خليفة، أو وال أو أمير، وما تمسح بباب أحد، إنصرف إلى خدمة الدين عن طريق العلم وعكف عليه عكوف المتصوفين، تاركا الحياة وما فيها، فاعتزل في صومعته غالقا عليه بابه لا يجاوزه، حتى قضى حياته في طلبه، سئل عنه سفيان التوري فقال: «ذلك رجل خلق من المسك والذهب» ([10]).
ويعتبر معجمه "العين" المصدر الوحيد الذي استقت منه المعاجم التي تلته مادتها. إذ كان أول من وضع الشكل المستعمل الآن في ضبط الحروف، وكان سيد أهل الأدب في تصحيح القياس واستخراج النحو وتعليله. و"معجم العين" يقوم على عدة أسس لغوية وتنظيمية ورياضية، فالخليل لا يرتب الكلمات ترتيبا هجائيا (ألفبائيا) وإنما يرتبها ترتيبا صوتيا، لأن اللغة قوامها النطق والصوت لا الشكل، لذا اعتمد الترتيب الصوتي لمعجمه، فرتب الألفاظ حسب مخارجها من الحلق - الشفتين، ثم قسم المعجم إلى كتب بعدد أحرف الهجاء، فبدأ بكتاب العين، فكتاب الحاء ثم الهاء ... وسمي المعجم كله بـ"معجم العين" على أساس تسمية الكل بالبعض، واتبع الخليل في معجمه مبدأ (التقليب) للمادة الواحدة، حتى يمكن حصر جميع الألفاظ في اللغة العربية دون تكرار ([11]). ومن السمات الظاهرة في معجم العين اهتمامه بذكر الشواهد، وعنايته بلغات القبائل، والصفات والمصادر والجموع، واهتمامه بالقياس على أساس الاشتقاق ([12]). ويمكننا القول إن وضع "كتاب العين" ما شكا مما شكته المعاجم اللاحقة عليه من قيود فقهية ولغوية، وكان الخليل بكتابه هذا أول من وضع الكلم العربي في صورة معجم، (ويقع في نحو 2500 صفحة ولم يصل إلينا كله)؛ كما كان على رأس مدرسة معجمية اقتفت أثره واتبعت منهجه، فاعتمده العلماء واللغويون ونسج على منواله أكبر أساطين اللغة وأشهر الموسوعيين؛ كما تناوله بالدراسة عدد من العرب القدامى والمحدثين وبعض المستشرقين. ويكفي فخرا ما قاله ابن المقفع عندما سئل عنه بعد لقاء جمعهما: «كيف رأيت الخليل؟ قال رأيت رجلا عقله أكثر من علمه».
لقد مهد الخليل السبيل لمن جاء بعده من مؤلفي المعاجم، فبدأ التأليف المعجمي ينشط منذ القرنين الثالث والرابع الهجريين، فقد وضع ابن دريد (المتوفى سنة 321 ه) معجمه "الجمهرة في اللغة" خالف فيه معجم العين حيث عدل عن الترتيب الصوتي إلى الترتيب الهجائي، يوزع صيغ المادة الواحدة على أبواب متباعدة، ويحاول أن يربط بين الصيغ الفرعية والأصلية. ويعتبر بداية تحول لغوي هام، باعتماده منهج الخليل من جهة، ونظام الأبنية ومنهج الحروف الهجائية من جهة أخرى. يقول في مقدمته: «وإنما أعرناه هذا الإسم لأننا اخترنا له الجمهور من كلام العرب وأرجأنا الوحشي والمستنكر ... وابتدأت فيه بذكر الحروف المعجمة .. ولم أخرج إنشاء هذا الكتاب على الأزراء بعلمائنا، ولا الطعن في أسلافنا، وأنى يكون ذلك، وإنا على مثالهم نحتذي وبسبلهم نقتدي، وقد ألف أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي كتاب العين، فأتعب من تصدى لغاية، وعنى من سما إلى النهاية .. وكل من بعده لو تبع، أقر بذلك أم جحد، ولكنه رحمه الله ألف كتابه مشاكلا لثاقب فهمه وذكاء فطنته، وهذا الكتاب .. أجريناه على تأليف الحروف المعجمة إذ كانت بالقلوب أعبق، وفي الاسماع أنفذ»؛ ورغم ما في الجمهرة من صعوبة في تقسيم الأبواب، وتقليب المواد، وعدم تنسيق الشواهد والصيغ ... فإن من جاءوا بعده أفادوا من مادة المعجم اللغوية، كما تنبهوا إلى سهولة الترتيب الألفبائي، فشاع في القرن الرابع، ووجده الناس أقرب منالاً وأسهل حفظا ([13]).
¥