والمختار السوسي وغيرهم كثير). فوحدت بين العربي والفارسي والتركي والكردي والرومي والزنجي والبربري، إنها لغة عقيدة خالدة وحضارة حية ورسالة قائمة في الحياة ووعاء الثقافة العالمية لقرون. ويرى الدكتور نقولا زيادة أن «الوعاء اللغوي الذي كان من قبل لا يتسع لشيء من هذا اتسع الآن بحيث أصبح بإمكانه أن يحتوي كل أصناف المعرفة والعلوم، والآداء التي كانت تعبر عن قدر محدود من الآراء والأفكار أصبحت الآن بإمكانها أن تعبر عن الجديد كله. واللغة التي كانت أول العهد بالإسلام تكتفي بشرح العقيدة والإيمان والواجبات أخذت الآن نفسها بالمحاجة والمقارعة دفاعا عن العقيدة وتوضيحا لها للآخرين ... » ([5]).
اللغة العربية ومرحلة التدوين
ظهر في الثلث الأخير من القرن الأول الهجري وطوال القرنين الثاني والثالث الهجريين عدد من الحركات الثقافية والعلمية والإدارية لتدارك وضعية اللغة العربية إداريا ولغويا وعلميا في وقت واحد منها:
أ - حركة تعريب الدواوين الإدارية في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، الذي أدرك خطورة الازدواج اللغوي على كيان الدولة الإسلامية وعلى مستقبل اللغة العربية. ويعتبر أعظم حدث ثقافي سياسي بعد جمع القرآن نظم وقف خطة شاملة ([6]).
ب - حركة لتدوين وتقعيد قواعد اللغة العربية التي نشطت منذ أواخر القرن الأول الهجري وطوال القرون الثلاثة التالية، فقد كانت حاجة العرب في صدر الإسلام إلى وضع معجمات تجمع ألفاظهم وتشرحها وتستشهد لها جزءً من حاجتهم إلى ضبط المادة اللغوية ومعرفة اشتقاقها، وشرح غريبها، والتفرقة بين الأصيل والدخيل فيها ([7]). فاتخذ علماء اللغة سبلا متعددة لجمع اللغة وتدوينها وترتيب مفرداتها على نحو ما، فكانوا يتنافسون في الرحلة إلى البادية، ويقيمون بين الأعراب، يخالطونهم ويدونون ألفاظهم، ويحفظون كل ما يسمعون عنهم من أشعار وأخبار وقصص وأمثال. ودفع الإعجاب بلغة البدو إلى محاولتهم إظهار اختلافهم في النطق عن أهل الحضر، فكانوا يتشدقون أو يتشادقون، كما كانوا يحتفلون بالغريب ويهتمون به غاية الاهتمام، ولهذا نجد في كتب اللغويين اهتماما بالغريب أي الألفاظ الغريبة النادرة، وحاول بعض البدو إرضاء رغبة اللغويين في استخدام الغريب وولعهم به. فنشأ علم النحو على أيدي أبي الأسود الدؤلي المتوفى سنة 69 ه ثم تناوله منه علماء البصرة والكوفة فأكملوه وفصلوه، وكما تضخمت المادة النحوية لأن النحاة استنبطوا قواعدهم من مجموعة غير قليلة من اللهجات تضخمت المادة اللغوية التي يشتمل عليها المعجم بنقل اللغة من مصادر لهجية متنوعة، فقد اتجهت جهود العلماء وجهات مختلفة، واتخذت رسائلهم الأولى أنماطا مختلفة من التأليف، يعنى بعضها بمظهر واحد من مظاهر اللغة، أو موضوع واحد من موضوعات ألفاظها، وتنسق الرسائل - تبعاً لذلك - بعض التنسيق والتبويب. فمن الرسائل التي تتعلق بموضوع واحد رسائل للأصمعي: (رسالة الابل، ورسالة الخيل، رسالة الشتاء، الوحوش، خلق الإنسان ... )، وأبي زيد الأنصاري: (اللبأ واللبله، كتاب الهمز، المطر .. ) .. ، ومن العلماء من اتجه إلى التأليف في "الأضداد" وهي الألفاظ التي تحمل المعنى وضده في آن واحد .. (الأصمعي وأبي حاتم السجستاني وابن السكيت ومحمد بن القاسم الأنباري وابن الدهان وقطرب محمد بن المستنير).
ومن العلماء من توفر على جمع المترادفات أو المشترك اللفظي وهي الألفاظ .. ومنهم من اشتهر بجمع (المثلثات) وهي الألفاظ التي جاءت على ثلاث حركات في الأصل الواحد، فيتغير المعنى بتغير الأصل. واشتهر من ألف فيها قطرب .. وبعض العلماء انصرف إلى جمع الأفعال كالزجاج وابن القوطية الأندلسي، المتوفى سنة 367 ه ... ، ومن المؤلفين من أفرد بحوثا خاصة بالأبنية الصرفية كالغريب المصنف لأبي عبيد والمنتخب للراع النمل، والجمهرة في أبوابها الأخيرة، ومنهم من انفرد بمؤلف خاص ببعض الأبنية كأبنية المصادر والأفعال والأسماء .. ومن هؤلاء الكسائي، الفراء، الأصمعي، أبو عبيدة، قطرب، أبو حاتم السجستاني، والزجاج وغيرهم ... ثم جاءت مرحلة المعاجم التي استفادت من جميع الجهود السابقة في جمع اللغة ([8])، لأن معجم كل لغة من اللغات يعكس في الواقع الحياة العلمية والجوانب الحضارية للمجتمع الناطق بها. ويعد الخليل بن أحمد الفراهيدي (100 - 175 ه) نابغة
¥