العربية ([2]).
انتصرت لهجات قريش بعد أن التقت في بوتقة حضارية صهرتها فاتسعت أساليبها وارتفعت حسب مستوى المتحدثين بها، بل إن تطورها التاريخي مع ما تتمتع به من مرونة ذاتية أصبح لا ينفصل عنها بحيث جعل منها تلك اللغة التي استوعبت علوم وفلسفة الأولين والآخرين من يونان ورومان وسريان وهند وفرس وقبط، إنها لغة شمولية وعميقة حية نامية، تنمو وتزدهر بنمو المجتمع العربي، وازدهاره في حقول الحياة كلها، المادية منها والاجتماعية والسياسية والأدبية والعلمية والتقنية، فما من قاعدة من قواعد اللغات السامية تابعت نموها ونضجت في تطورها كما نضجت في اللغة العربية. وفي اللغات السامية اشتقاق ولكن قوالب المشتقات فيها لم تتميز بأوزانها ومعانيها كما تميزت مع تطور اللغة العربية، وفي اللغات السامية حروف لم تعرف في غيرها من العائلات اللغوية كما يسميها المحدثون، ولكن لغة من اللغات - سامية كانت أم آرية أو طورانية - لم تتحرر فيها المخارج بحروفها ولا الحروف بمخارجها كما تحررت في لغة الضاد، فليس في لغة الضاد حرف ملتبس بين مخرجين ولا مخرج ملتبس بين حرفين ... ([3])؛ كما احتوت على أصوات وألفاظ تدل على أعلى مراتب النشوء اللغوي عند الإنسان.
خصائص اللغة العربية:
لقد تطورت اللغة العربية في عصور ازدهار الحضارة العربية الإسلامية تطورا مذهلا أثْراها بمصطلحات وألفاظ تخصصية في كثير من العلوم والدراسات الإنسانية، ونحت العلماء والدارسون والفلاسفة والشعراء والفقهاء وغيرهم ألفاظهم التخصصية تلك في عصور النهضة والازدهار من قاعدة اللغة العربية وصلبها لا من خارجها، وقدموا مساهمات جليلة في علوم ومعارف إنسانية كثيرة، ومن الطريف ما لاحظه الجاحظ بشأن المصطلحات التي استدعت وجودها العلوم المختلفة التي جدت في العصر العباسي فلاحظ أن المتكلمين «اشتقوا من كلام العرب تلك الأسماء، وهم اصطلحوا على تسمية ما لم يكن له في لغة العرب اسم. فصاروا في ذلك سلفا لكل خلف وقدوة لكل تابع. ولذلك قالوا: العرض والجوهر، وأيس، وليس، وفرقوا بين البطلان والتلاشي. وذكروا الهذية والهوية والماهية وأشباه ذلك. وكما وضع الخليل بن أحمد لأوزان القصيدة وقصار الأرجاز ألقاباً لم تكن العرب تتعارف تلك الأعاريض بتلك الألقاب، وتلك الأوزان بتلك الأسماء، كما ذكر الطويل والبسيط والمديد والوافر والكامل، وأشباه ذلك، وكما ذكر الأوتاد والأسباب والحزم والزحاف. وقد ذكرت العرب في أشعارها السناد والأقواء والاكفاء ولم أسمع الايطاء. وقالوا في القصيد والزجر والسجع والخطب، وذكروا حروف الروي والقافية، وقالوا هذا بيت وهذا مصراع ... وكما سمى النحويون فذكروا الحال والظرف وما أشبه ذلك ... وكذلك أصحاب الحساب قد اجتلبوا أسماء وجعلوها علامات للتفاهم» ([4]). وقد اتفق علماء اللسانيات على أن من خصائص اللغة بوجه عام قدرتها على التطور والنمو وذلك باستخدام وسائل صوتية وصرفية ونحوية لتوليد ألفاظ ومدلولات وتراكيب لغوية جديدة للتعبير عما يستجد من حاجات ومفاهيم في المجتمع. وبما أن اللغة العربية هي أطول اللغات عمرا وأثراها لفظا وأقدرها على النمو اللفظي والدلالي لما تتحلى به من خصائص اشتقاقية فريدة فإن بوسعها أن تعبر عن سبل المفاهيم العلمية والتقنية الجديدة المتدفق باستمرار.
وبفضل هذا الوضع الثابت حافظت اللغة العربية على وجودها، وعمت أقطارا شاسعة في الشرق والغرب، واستعملت حروفها في كتابة عدة لغات أسيوية وافريقية. وليس غريبا أن نرى ابن المقفع الفارسي الذي اعتبرها من المزايا العالية التي للشعب العربي كما أن العبقري أبا الريحان البيروني الذي كان يتقن لغات عديدة فضل لسان العرب لينقل إليه العلوم من أقطار العالم .. وهكذا أصبحت اللغة العربية لغة عالمية بعد الاتصال الذي حدث بعد انتشار الإسلام في الآفاق، فاختلط العرب بغيرهم من الأمم، ودخلها الكثير من الألفاظ وطرق التعبير حيث ترجمت الكتب من لغات أجنبية واتخذ العربية غير أهلها من الأخرى لغة لهم، فألفوا وأبدعوا بها لأن العديد من علماء العربية وآدابها وفلاسفتها لم يكونوا من أصول عربية (ابن المقفع وسيبويه والبخاري وابن سينا والفارابي والفيروز أبادي .. وأحمد شوقي وجميل صدقي الزهاوي
¥