المجتمع، وقد انقلبت لديها القيم والمعايير وأصبح المكر والخداع شطارة وبراعة وحسن تدبير، واستطاع الهمذاني ببراعته القصصية تصوير هذه الشخوص، ونراه يعبر عن دقة في النسيج القصصي، ونرى ردود أبي الفتح الساخرة على هذا الرجل المهذار ونلمح تدخل القاص في بناء الحوار، ولا يتركه يسرد كالخبر العادي فكان حواراً شائقاً وكانت قصة بارعة.

ولنقف وقفة أخرى عند المقامة البغدادية، تبدأ القصّة بالاستهلال التزييني حدثنا عيسى بن هشام، ثم يبدأ استهلال القصّة الحقيقي" اشتهيت الأزاذ وأنا ببغداد وليس معي عقد على نقد فخرجت أنتهز محاله"، وهنا نلاحظ أن الذي كان راوياً في بقية القصص (عيسى بن هشام) أصبح في هذه القصّة بطل القصّة وبدأ يظهرحيله وأساليبه، ونرى القاص بديع الزمان يحلل اجتماعياً في هذه القصّة ويعبر عن إدراكه لبساطة أهل القرية أو السواد كما ذكر، على غير أهل المدينة، ورغم ذلك لن تكون البساطة مفتاح الحيلة فلا بد من أمر آخر، استطاع إدراكه وتحليله نفسياً والتعبير عنه وهو يقول عن الرجل حين استدرجه ودعاه للطعام ":، فَقُلْتُ: هَلُمَّ إِلى البَيْتِ نُصِبْ غَدَاءً، أَوْ إِلَى السُّوقِ نَشْتَرِ شِواءً، وَالسُّوقُ أَقْرَبُ، وَطَعَامُهُ أَطْيَبُ، فَاسْتَفَزَّتْهُ حُمَةُ القَرَمِ (شدة شهوة أكل اللحم)، وَعَطَفَتْهُ عَاطِفُةُ اللَّقَمِ، وَطَمِعَ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ"

ثم يأتي عيسى بن هشام بالشواء اللذيذ والحلوى والطعام الفاخر، ويأتيان عليه كله، لكنا نعرف مهارة القاص حين نتلمس براعته ونرى إشارته الفنية" فحين ينادي صاحب الشواء يؤكد على اسم الرجل متلمساً طمعه، وويزيد في مرارته بعد ذلك، حيث الرجل يريد أن يقول له إنه أبوعبيد لكن لطمعه يسكت وكأن ابن هشام يستغله ويعرف نقطة ضعفه، ويسخر منه أيما سخرية في هذا النداء " فَقُلْتُ: افْرِزْ لأَبِي زَيْدٍ مِنْ هَذا الشِّواءِ، ثُمَّ زِنْ لَهُ مِنْ تِلْكَ الحَلْواءِ، واخْتَرْ لَهُ مِنْ تِلْكَ الأَطْباقِ، وانْضِدْ عَلَيْهَا أَوْرَاقَ الرُّقَاقِ (خبز رقيق)، وَرُشَّ عَلَيْهِ شَيْئَاً مِنْ مَاءِ السُّمَّاقِ، لِيأَكُلَهُ أَبُو زَيْدٍ هَنيَّاً.

ثم تأتي نهاية الحيلة وفاصلتها البارعة، فالرجل قد عطش وما أحوجه إلى ماء بارد فنرى ابن هشام يسارع للقول "ثُمَّ قُلْتُ: يَا أَبَا زَيْدٍ مَا أَحْوَجَنَا إِلَى مَاءٍ يُشَعْشِعُ بِالثَّلْجِ، لِيَقْمَعَ هَذِهِ الصَّارَّةَ (مصنوع ليلاً)، وَيَفْثأَ (العطش) هذِهِ اللُّقَمَ الحَارَّةَ، اجْلِسْ يَا أَبَا َزيْدٍ حَتَّى نأْتِي كَبِسَقَّاءٍ، يَأْتِيكَ بِشَرْبةِ ماءٍ، ثُمَّ خَرَجْتُ وَجَلَسْتُ بِحَيْثُ أَرَاهُولاَ يَرَانِي أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُ"

بل لا يكتفي بالهرب، ولعل غايته لم تكن فقط الطعام بل الاستمتاع بالتحايل على الرجل السوادي، واستغلال طمعه والتشفي به من ناحية لا يراه فيها، نهاية القصّة كانت في طلب صاحبالشواء نقوده، فعرف السوادي أنه قد احتيل عليه ويقول " كَمْ قُلْتُ لِذَاكَ القُرَيْدِ (تصغير قرد)، أَنَا أَبُو عُبَيْدٍ، وَهْوَ يَقُولُ: أَنْتَ أَبُوزَيْدٍ."

ولعله كذلك يوجه الكلام لنفسه في داخله فهو يقول ليتني لم أقبل أن أكونأبا زيد، ويجلد ذاته حين لا ينفعه تأنيب الضمير، فحين صاحابن هشام" فَقُلْتُ: افْرِزْ لأَبِي زَيْدٍ مِنْ هَذا الشِّواءِ" سكت السوادي وقد ظفر بغنيمة، وهي لعمرينصيحة ذهبية أن لا يطمع المرء بماليس له، فقد يكون شركاً يقع فيه.

القصّة هي قصّة فنية بكل أدواتها، وربما يضيف عمق المعنى للقصّة أحد أركانها التي لا تعرفها القصّة الحديثة وقد استهلت المقامة بعد الاستهلال التزييني والاستهلال التزييني الإضافي بالاستهلال الذي نسميه الاستهلال المؤسس حيث ذكر مشاهدته للسوادي صاحب الحمار، وكان قد ذكر أن يشتهي الأزاد ونحن نعرف سلفاً أن المقامة تقوم على الحيلة، فيكون هذا الاستهلال موحياً ويؤسس للحيلة في ذهن المتلقي

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015