شخصية أبي الفتح الإسكندري هي شخصية ترمز لنموذج المكدي الواسع العلم والثقافة والدراية، الشديد الحيلة، وهو شخصية عجيبة غريبة وصناعة الكدية المحرك الأكبر لأعماله، يجند في سبيلها كل وسائله في الخداع والمكر وصار يسعى للكدية بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، وربما لم يعد همه المال بل الانتصار لمكره وخداعه بهذه الوسائل المتجددة، وهو متنكر في قصّة يغير لباسه وطماره ويلبس لبس المكدي البالي وبذلك نرى له أدواراً عديدة ونستمتع حين نعرف آخر القصّة أنه هو صاحبنا صاحب الكدية. وهذا أسلوب قصصي بارع لدى الهمذاني.

- الاستهلال لدى بديع الزمان:

استهلال المقامة عند بديع الزمان يبدأ بـ حدثناعيسى بن هشام والتي أرى أنها ليست استهلال المقامة الحقيقي، لأنها أصبحت لازمة تزينية في كل المقامات، بل الاستهلال الحقيقي ما جاء بعدها، لكننا لو بحثنا لوجدنا رتابة كذلك في كل استهلال جديد لمقامة جديدة، فالبداية تبدأ من المكان وقد يشير اسم المقامة لذلك كالمقامة الكوفية والبصرية، فيعرف المتلقي أن أحداث القصّة وبدايتها ستكون من اسم المكان المذكور في العنوان.

ولو اعتبرنا تلك كذلك لازمة إضافية تتقدم الاستهلال الحقيقي: سنصل إلى جمال القصص لدى بديع الزمان الهمذاني، وبطل قصصه هو أبوالفتح الإسكندري

لنرَ استهلال المقامة المضيرية:

" كُنْتُ بِالبَصْرَةِ، وَمَعِي أَبُو الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ رَجُلُ الفَصَاحَةِ يَدْعُوهَا فَتُجِيبُهُ، وَالبَلاغَةِ يَأَمُرُهَا فَتُطِيعُهُ، وَحَضَرْنَا مَعْهُ دَعْوَةَ بَعْضِ التُّجَّارِ، فَقُدِمَتْ إِلَيْنَا مَضِيرَةٌ، تُثْنِي على الحَضَارَةِ، وَتَتَرَجْرَجُ في الغَضَارَةِ، وَتُؤْذِنُ بِالسَّلاَمَةِ، وَتَشْهَدُ لِمَعَاوِيَةَ رَحِمَهُ اللهُ بِالإِمَامَة، ِ فِي قصعَةٍ يَزِلُّ عَنْهَا الطَّرْفُ، وَيَمُوجُ فِيهَا الظَّرْفُ، فَلَمَّا أَخَذَتْ مِنَ الخِوانِ مَكانَهَا، وَمِنَ القُلُوبِ أَوْطَانَهَا، قَامَ أَبُو الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِ يُّيَلْعَنُهَا وَصَاحِبَهَا، وَيَمْقُتُهَا وَآكِلَهَا، وَيَثْلِبُهَا وَطَابِخَهَا، وَظَنَنَّاهُ يَمْزَحُ فَإِذَا الأَمْرُ بِالضِّدِّ، وَإِذَا المِزَاحُ عَيْنُ الجِدِّ، وَتَنَحَى عَنِ اُلْخِوَانِ، وِتِرِكِ مُسَاعَدَةَ الإِخْوَانِ، وَرَفَعْنَاهَا فَارْتَفَعَتْ مَعَهَا القُلُوبُ، وَسَافَرَتْ خَلْفَهَا العُيُونُ، وَتَحَلَّبَتْ لَهَا الأَفْوَاهُ، وَتَلَمَّظَتْ لَهَا الشِّفَاهُ، وَاتَّقَدَتْلَهَا الأَكْبَادُ، وَمَضَى فِي إِثْرِهَا الفُؤَادُ، وَلكِنَّا سَاعَدْنَاهُ على هَجْرِهَا، وَسَأَلْنَاهُ عَنْ أَمْرِهَا، فَقَالَ:"

الاستهلال يبدأ مع ذكر نوع من الطعام يدعى المضيرية، وصاحبنا لهذه الدعوى هو بطل قصصنا أبو الفتح الإسكندري الذي رغم حيله ومكره للوصول لمبتغاه، لكنه هنا والطعام قد حضر يرفضه ويصيح ويلعنها، على غير عادته وكأنه لايأكل إلا مما احتالت يده، لكن هذه البداية كانت مشوقة للجميع لمعرفة سر هذا الصياح والرفض رغم طمع البطل، وعناصر الاستهلال لا تدع للقارئ ترك هذه القصّة مهما كان السبب، فالعناصر متوفرة منذ البداية خاصة وقد حضر أبو الفتح الإسكندري من أول القصّة، فوجوده لا بد أن يكون له حكاية، ثم رفضه الطعام بهذا الشكل رغم لذته لا بد أن وراءه سراً، وهذا يدفع القارئ إلى متابعة القصّة سطراً فسطراً بل كلمة فكلمة حتى الثمالة وهذا الاستهلال نسميه الاستهلال المحفز.

****

ولو استطردنا بعيداً عن الاستهلال سنجد في هذه القصّة عناصر قصصية بديعة، فحضر أول ما حضر التشويق، وتقنية الخطف خلفاً أو لنقل (عوداً على بدء)، ثم بناء الشخصيات وخاصة الرجل الذي دعا أبا الفتح للوليمة، فبناء الشخصية يعبر عن براعة فيالتحليل النفسي، فكان هذا الرجل ثرثاراً مهذاراً، يقف عند كل دقيقة ويصفها ويصف جمالها وموطنها، ويطيل فيها الشرح والوصف، وهنا قد يفكر المتلقي بأنه غنمها بجهده وكده وتعبه، لكن بديع الزمان يفاجئنا أن الرجل ما هو إلا محتال، بل ولا ينفك أن يبوح بمواقف مكره واحتياله للوصول لهدفه، وأخذه بأرخص الأثمان مع أنه يساوي الكثير، وكأن إطالته لوصف هذه الأشياء ما هي إلا وصف ثانوي لمكره الذي يجده ذكاءً وحذاقة، وقد يطل علينا بتحليل اجتماعي يفضح شريحة أخذت تنتشر في

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015