ولعلنا نقف وقفة سريعة عند المقامة الموصلية فالاستهلال يبدأ عند صحبة ابن هشام لأبي الفتح الإسكندري يبحثان عن لذة الحيلة كالعادة، وكأن ابن هشام وضع صوب عينيه كشف حيل الإسكندري، ولم يعد يأمن لظاهر الوضع بل صار يبحث وقد نفد صبره لعدم اكتشافه لحيلة جديدة، وقد أصبح هدفه الكشف عن فنون الحيل: يقول لصاحبه أين نحن من الحيلة، وهذا الاستهلال استهلال مشوق كالعادة، يمسك القارئ حتى يكشف عن سر هذه الحيلة، ورسالة الاستهلال لدى الهمذاني تقول، الكشف عن مغزى القصّة لا يعني التخفيف من القدرة على جذب المتلقي، بل بالعكس سنرى أساليب عجيبة وغريبة مع صاحبنا الإسكندري.

السخرية تطل هنا عبر تعامل الإسكندري مع الميت، وخاصة حين جاء القوم بعد المدة وقد أخبرهم أنه يستطيع أن يعيده للحياة:" فَلَمَّا ابْتَسَمَ ثَغْرُ الصُّبْحِ وانْتَشَر جَناحُ الضَّوِّ، في أُفُق ِالجَوِّ، جاءَهُ الرِّجَالُ أَفْوَاجاً، والنِّساءُ أَزْوَاجاً، وَقَالوا: نُحِبُّأَنْ تَشْفِيَ العَلِيلَ، وَتَدَعَ القَالَ والقِيلَ، فَقَالَ الإِسْكَنْدَرِيُّ: قُومُوا بِنا إِلَيْهِ، ثُمَّ حَدَرَ التَّمَائِمَ عَنْ يَدِهِ، وَحَلَّ العَمائِمَ عنْ جَسَدِهِ، وَقَالَ: أَنِيمُوهُ على وَجْهِهِ، فَأُنِيمَ، ثُمَّ قَالَ: أَقِيمُوهُ على رِجْلَيْهِ، فَأُقِيمُ، ثُمَّ قَالَ: خَلُّوا عَنْ يَدَيْهِ، فَسَقَطَ رأَسْاً، وَطَنَّ الإِسْكَنْدَرِيُّ بِفِيهِ وَقَالَ: هُوَ مَيِّتٌ كَيْفَ أُحْيِيهِ? فَأَخَذَهُ الخُفُّ، وَمَلَكَتُهُ الأَكُفُّ، وَصَارَ إِذَا رُفِعَتْعَنْهُ يَدٌ وَقَعَتْ عَلَيْهِ أُخْرَى، ثُمَّ تَشَاغَلوا بِتَجْهيزِ المَيِّتِ، فانْسَللْنَا هَارِبينَ"

حسن التخلص هنا و السخرية التي تعامل معها الإسكندري كانت بديعة، فلم يخبر صديقه ابن هشام أنه خالي الوفاض هذه المرة، والرجل قد أصيب بثقة عارمة من تخلصه من كل مشكلة، بفضل حيله ومكره، وصار يتعامل تلقائياً مع المواقف ويخترع البدايات منتظراً الإلهام فيحل النهايات، لكنه هذه المرة أخفق ولم يأته المكر، وإذ به يقول بسخرية معتقة "الرجل ميت كيف أحييه؟ " وسؤال ابن هشام لماذا ورطتنا وأنت تعرف أنك خالي الحيلة، وهذا يرتبط مع استهلال القصّة، حيث اخترق ابن هشام الإيهام القصصي، وحاول أن يشرك القارئ الفكرة، فقال بعد أن أحسب خلوه من إحساس الكشف" أَيْنَ نَحْنُ مِنَ الحِيلَةِ"، فجاءت النتيجة على غير العادة خالية من الحيلة وهذا ما نسميه الاستهلال المخادع، وكانت حيلة الإسكندري خالية الوفاض على غير العادة، ورغم ذلك يحتوي القصّة على المباغتة والسخرية اللطيفة، وتعبر عن دقة فن القاص، لكنه يتابع في القصّة حتى يصل لقوم وينال منهم بمكره ويهرب مع صاحبه، وتكون قفلة القصّة مع الحيلة، فيالتفاف وعودة القصّة لمجراها الذي سارت عليه أخواتها.

القصص تحمل من أدوات القص وتقاناته الحديثة الكثير، ولو عدنا إلى فنيات القصّة في كتاب رشدي رشاد، لوجدنا معظمها قد توافر لدى بديع الزمان، فالحبكة والنسيج والبناء العام وبناء الشخصيات والمقدمة والوسط ونقطة التنوير والأثر الكلي للقصّة والمعنى كلها توافرت لدى القاص البديع في قصصه البديعة، بل كانت وحدة البناء قاسماً مشتركاً في كل مقاماته، وهي تدور حول الكدية وتصور حيلهم، والمعنى العام هو تحليل لمفرزات المجتمع الجديد فخرج إلينا كتاب عام في موضوع واحد متقن الأساليب جميل العبر ظريف الفنون.

كتاب "الاستهلال في القصة " للكاتب طارق شفيق حقي

أسأل الله لكِ التوفيق والسداد والنجاح الدائم، ولعل أحد الأفاضل يفصل لكِ بشكل مختصر إذا لم تكن هنا إجابتك.

والله الموفق

طور بواسطة نورين ميديا © 2015