وفي عام 156 هـ شهدت المدينة سيولاً ضخمة هددت القسم الجنوبي منها وكادت تجتاح المسجد النبوي، ولكن عجوزاً دلت الناس على نفق مغطى، وعندما فتح مدخله تدفقت فيه المياه إلى وادي بطحان. لقيت المدينة عناية أكبر في عهد الخليفة المهدي ومن بعده هارون الرشيد فقد زار المهدي المدينة سنة 160 هـ وأكرم أهلها وجلس إلى الإمام مالك وتزوج إحدى حفيدات عثمان بن عفان واصطحب معه في عودته خمسمائة من رجالها ليكونوا في حاشيته ببغداد وأعاد قوافل القمح المصرية، وأمر بتوسعة المسجد النبوي فأضيفت إليه أرض مجاورة وأعيد بناء قسم كبير منه وزينت جدرانه وأعمدته بالرخام والفسيفساء. كما نظمت خدمات بريدية عامة لأهل المدينة تنقل رسائلهم إلى العراق واليمن وما فيهما ..
وفي عام 169 هـ قام أحد الهاشميين هو الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بحركة تمرد متعجلة ومحدودة، بسبب شدة أمير المدينة على بعض الهاشميين وطلب البيعة لنفسه، ولكن أهل المدينة لم يناصروه لسوء تصرفه ومقاتلته رجال الإمارة قرب المسجد النبوي فخرج منها بعد أحد عشر يوماً إلى مكة وانتهت ثورته بمقتله في معركة (فخ) قربها. وعادت السكينة إلى المدينة المنورة.
وقد استمرت العناية بها في عهد هارون الرشيد وتوالى عليها الأمراء وزارها الرشيد وأبناؤه عدة مرات وأكرموا أهلها. وعندما اشتعلت الفتنة بين الأمين والمأمون في بغداد انحاز أمير المدينة إلى المأمون فتواصلت السكينة والطمأنينة فيها إلى نهاية القرن الهجري الثاني، حيث تأثرت بفتنتين هما: فتنة أبي السرايا ـ وفتنة محمد بن جعفر. أما أبو السرايا فقد ثار على الخليفة المأمون ودعا إلى بيعة رجل هاشمي هو ابن طباطبا وأرسل رجاله للاستيلاء على الأمصار، فأرسل إلى المدينة (محمد بن سليمان الطالبي) أميراً عليها. وخرج منها الأمير العباسي وكانت سيرة محمد بن سليمان حسنة مع أهل المدينة، ولكن إمارته لم تطل فقد انتهت ثورة أبي السرايا وعاد العباسيون إلى المدينة فخرج منها محمد بن سليمان ورجاله سلماً. وأما محمد بن جعفر فقد دعا لنفسه بالخلافة في مكة ثم توجه إلى المدينة وهاجمها عدة مراتٍ فتصدى له أهلها بقيادة أميرها العباسي هارون بن المسيب، وردوه عنها. وخسر أهل المدينة عدداً من الرجال. بعد ذلك نعمت المدينة بالاستقرار طوال العقدين الأولين من القرن الثالث. ومنذ بداية العقد الثالث ضعفت الإدارة وبدأت تظهر مشكلة الأعراب الذين يهددون الطرق حولها، ويتجرأ بعضهم فيصل إلى بيوتها وأسواقها، وبدأ تمرد قبائل بني سليم وظهرت آثاره في تهديد الأمن في المدينة وجاءت قوة من بغداد عام 230 هـ بقيادة حماد بن جرير الطبري فضبطت الأمن، وجهز أمير المدينة حملة من أهلها مع القوة الوافدة لتأديب قبائل بني سليم. ولكنها فشلت وقتل كثير من رجالها. فأرسل الخليفة الواثق جيشاً كبيراً بقيادة (بغا الكبير) لتطهير المنطقة من المفسدين وصارت المدينة مركزاً لتحرك الجيش وسجن فيها أكثر من ألف منهم، وقد حاول بعضهم الفرار من السجن وقتلوا بعض الحراس وخرجوا إلى الشوارع، لكن أهل المدينة تصدوا لهم وقضوا على زعمائهم وأعادوا الباقين إلى السجن تمهيداً لسوقهم إلى بغداد. تخلصت المدينة من تهديد المفسدين، ومن بعض الأعراب عدة سنوات بعد هذه الحملة التطهيرية. ولكنها بدأت تتقلص عمرانياً وتجمعت المساكن قرب المسجد النبوي وضاقت الأزقة فيها وهجرت معظم المناطق البعيدة أو أصبحت أشبه بتجمعات سكنية مستقلة مثل منطقة قباء والعوالي والقبلتين، وبدأت المدينة تتأثر بالضعف العام الذي أصاب الخلافة العباسية بعد منتصف القرن الثالث الهجري. وكادت تتعرض لمحنة شديدة عام 251 هـ عندما هاجمها أحد الخارجين على الخلافة العباسية هو إسماعيل بن يوسف .. من أحفاد الحسن بن علي والملقب بالسفاك. وكان قد نشأ بين الأعراب واتصف بالشدة والجفاء، استولى على مكة وقتل الكثيرين فلقب بالسفاك ثم توجه إلى المدينة، ولم يكن الأمير ورجاله قادرين على مواجهته فخرجوا وتصدوا له وثبتوا لحصاره وتحملوا المجاعة ومات عدد منهم بسببها، حتى انصرف عنها عندما علم بقدوم نجدة من بغداد .. فكان موقفهم بطولة شعبية نادرة على إثر ذلك قام أمير المدينة إسحاق بن محمد بن يوسف ببناء أول سور للمدينة يحيط بالكتلة العمرانية حول المسجد
¥