كما اسْتعان بريح عشْرقٌ زَجِلُ

ونقطعه هكذا:

ورواية البيت الثاني من معلقة الأعشى: تسمعُ للحلْي، من خطأ الرواة الذين يعتمدون على الحافظة والذاكرة، وفيهم من انتحل الأشعار، ونسبها إلى غير أصحابها. وجاء الخليل بن أحمد (رحمه الله)، واستنبط علم العروض من تلك الأشعار القديمة، ووضع لها القواعد. وقد تجنب الشاعر الكبير أبو الطيب المتنبي (رحمه الله) العلل التي تلحق الشعر كما أشرْتُ إليه آنفاً. وماذا يكون حال الشعر، لو لم يضع الخليل بن أحمد أوزانه وقواعده، وبحوره وزحافاته وعلله؟.

يقول شيخنا وأستاذنا الأستاذ الدكتور عبدالعزيز بن عبدالله الخويطر:

"وإذا لم يكن بعض الشعراء قد استفاد من الأوزان، كما وضعها الخليل بن أحمد، وسعيد بن مسعدة (الأخفش الأوسط)، فإنه عند النزاع والحجاج والاعتراض، لن يجد أي منهم ميزاناً يبين الصواب من الخطأ، غير هذا الميزان، والفضل لا يتبيّن بوجود هذا العلم، وما جاء فيه من استقصاء، ولكن في عدم وجوده، إذا لم يكن موجوداً، وكيف كانت حال الناس، لو أُهمل هذا الجانب، ولم يُنتبه له حينئذ".

انتهى ما قاله استاذنا الخويطر .. والأعشى، واسمه: ميمون بن قيس بن بكر بن وائل، أدرك الإسلام، وولد في (منفوحة) باليمامة. وأجمع مؤرخو الأدب العربي على تسميته بصنّاجة العرب، لمتانة شعره. وقد عد الإمام يحيى بن علي التبريزي (رحمه الله) قصيدته اللامية من أبدع القصائد العربية. وقد ذكر أبو الفرج الأصفهاني، في كتابه (الأغاني)، عن الشعبي، أنه قال: الأعشى أغزل الناس في بيت، وأخنث الناس في بيت، وأشجع الناس في بيت، والكل من قصيدته اللامية، أما الأول، فقوله: "غرّاءُ فرعاءُ مصقولٌ عوارضها"، وأما الثاني، فقوله:

قالت هريرةُ لمّا جئت زائرها

ويلي عليك وويلي منك يا رجُلُ

وأما الثالث، فقوله:

قالوا الطّراد فقلنا تلك عادتُنا

أوتنزلون فإنا معشر نُزُلُ

وقد تكلم واستشهد بهذا البيت: قالوا الطّراد .. علماءُ النحو واللغة كالخليل بن أحمد وسيبويه والتبريزي، في باب إعراب الفعل، وفي جمع التكسير فليراجعه من شاء من القراء الكرام ..

والشيء يذكر بالشيء .. روتْ كتب الأدب: أن الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان، دعا بنيه: الوليد وسليمان ومسلمة، فاستقرأهم فقرءوا، واستنشدهم فأنشدوا أشعاراً، فقال عبدالملك (رحمه الله): عليكم بشعر الأعشى، فإنه أخذ في كل فن فأحسن، ولم يمدح أحداً إلا رفعه، ولا هجا أحداً إلا وضعه .. ثم أخذ الخليفة عبدالملك يشرح لأبنائه محاسن شعر هذا الشاعر الكبير.

وفي شعر الأعشى شعر مصنوع .. روى أبو الفرج الأصفهاني، في كتابه (الأغاني): أن بشاراً بن برد، سمع هذا البيت من شعر الأعشى، من أحدهم:

وأنكرتْني وما كان الذي نكرتْ

من الحوادث إلاّ الشيْبَ والصلعا

فأنكر بشار البيت، وقال: هذا بيت مصنوع، ما يشبه كلام الأعشى، وكان أبو عبيدة حاضراً، يسمع ما قاله بشار، فعجب لذلك .. فلما كان أبو عبيدة جالساً عند يونس بن حبيب، وقد مضت عشر سنين، فقال الإمام يونس بن حبيب: حدثني أبو عمر بن العلاء، أنه صنع هذا البيت، وأدخله في شعر الأعشى. فيزداد أبو عبيدة عجباً من فطنة بشار، وصحة قريحته، وجودة نقده للشعر .. وكان الأصمعي يقول: بشار خاتمة الشعراء ..

وأعود إلى زحاف (الطيّ)، والذي يدخل البحر البسيط، ويجيزه علماء العروض، إلاَّ أني أرى أنه يُحدث اضطراباً في الإيقاع إذا دخل أول البيت من الشطر الأول، أو من الشطر الثاني، وقد مثلتُ لذلك ببيت للأعشى، دخل الطيّ في أوله، فغيَّر إيقاع البيت.

واقرْأ معي أيها القارئ الكريم هذا البيت لذي الأصبع العدواني:

ليَ ابْن عم على ما كان من خُلُق

مختلفان فأقْليه ويقليني

فتجد اضطراب النغم واضحاً في (مختلفان) لدخول الطيّ عليها.

ولو قال ذو الإصبع العدواني:

لي ابنُ عمّ على ما كان من خُلق

إن نختلفْ أقْله يوماً ويقليني

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015