وقد نقلها مشافهة عن قراء الكوفة المعروفين في عهده، وأشهرهم: حمزة بن حبيب الزيات (2). الذي استخدم الكثير من عناصر قرأته، وقد كان من الممكن بعد ذلك أن يظل الكسائي مجهولاً لايسمع به أحد، وألا يشتهر كقارئ من القراء السبعة المعروفين، وقد جلس يوماً مع جماعة من الناس، وكان قد مشى حتى تعب من المشي فقال: (قد عييت) (3) فعابوا عليه هذه الكلمة وقالوا له: أتجالسنا وأنت تلحن؟ فسألهم: أعييت وإن كنت قد أردت من انقطاع الحيلة: والتحير في الأمر. فقال: عييت مخففة، فأنف من هذه الكلمة. ثم قام من فوره ذلك. فسأل عمن يعلم النحو. فأرشد إلى معاذ الهراء. فلزمه حتى أنفذ ما عنده، ثم خرج إلى البصرة. فلقي الخليل. وجلس في حلقته، فقال له رجل من الأعراب: تركت أسدا وتميما وعندها الفصاحة، وجئت إلى البصرة (4) فقال الخليل بن أحمد الفراهيدي: من أين أخذت علمك هذا. فقال له: من بوادي الحجاز ونجد وتهامة فخرج الكسائي إلى البادية وأخذ يسأل البدو عن لغتهم ويكتب عنهم ما يرونه.
وتذكر المصادر بأنه أنفذ خمس عشرة قنينة من الحبر في الكتابة عن العرب سوى ماحفظ، وبعد أن دون عن العرب ما دونه وحفظ عنهم ما حفظ، رجع مرة أخرى إلى البصرة، يجلس في حلقة الخليل بن أحمد الفراهيدي فوجده قد مات وجلس في موضعه يونس بن حبيب، فجرت بينهما مسائل ومناظرات ظهر فيها علم الكسائي فأقر له يونس فيها، وصدره موضعه، وذاع صيته بعد ذلك واشتهر أمره، وكان هذا سبباً في انتقاله إلى بغداد واتصاله بالخلفاء العباسين (5).
فقد روي أن المهدي الخليفة العباسي كان عنده مؤدباً يؤدب الرشيد فدعاه وهو يستاك، فقال كيف تأمر من السواك؟ فقال: استك يا أمير المؤمنين. فقال المهدي: إنا لله وإنا إليه لراجعون (6).
ثم قال التمسوا لنا من هو أفهم من ذا. فقالوا: رجل يقال له علي بن حمزة الكسائي من أهل الكوفة، قدم من البادية قريباً فأمر بإحضاره من الكوفة فلما دخل عليه، قال المهدي: يا علي بن حمزة قال: لبيك يا أمير المؤمنين فقال كيف تأمر من السواك؟ فقال سك، يا أمير المؤمنين، قال أحسنت وأصبت. فأمر له بعشرة آلاف درهم ومنذ ذلك الحين صار الكسائي مؤدب لأولاد الرشيد (7).
ويروي الأزهري سبباً آخر لاتصال الكسائي بالخليفة المهدي فيقول: ((دخل الكسائي بغداد أيام المهدي، وطلب في شهر رمضان. قارئاً يقرأ في دار أمير المؤمنين في التراويح فذكر له الكسائي، فصلى بمن في الدار، ثم اقعد مؤدباً لابني أمير المؤمنين
ــــــــــــ
(1) ما تلحن فيه العامة، الكسائي، ص11
(2) المصدر نفسه، ص18.
(3) عييت: أي انقطاع الحيلة والحيرة في الأمر
(4) المصدر نفسه، ص13، 14.
(5) المصدر نفسه، ص 14.
(6) نفس المصدر، ص20.
(7) نفس المصدر، ص20.
(6)
ــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــ
وأمر له بعشرة آلاف درهم وكسوة وبر ودار وبرذون)) (1)، وكيفما كان السبب فقد اتصل الكسائي بقصور العباسيين، وأصبح من طائفة المؤدبين لأبناء الخلفاء، وكان إلى جانب عمله هذا، يقرئ الناس القرآن الكريم، ويعلمهم النحو واللغة في بغداد وقد أدى فريضة الحج في صحبة المهدي، وعندئذ قدم الكسائي ليصلي بالمدينة فهمز، فأنكر أهل المدينة عليه، وقالوا: تنبر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن (2).
ولما ولى الرشيد الخلافة، وأحضر إليه الكسائي في سنة 182هـ في السنة الثالثة عشرة لخلافته وأخرج إليه، تأديب ابني الرشيد محمد وعبد الله فقال فكنت أشدد عليهما في الأدب، أخذهما به أخذاً شديداً، فأتتني ذات يوم خالصة أم جعفر فقالت: ياكسائي، إن السيدة تقرأ عليك السلام، وتقول لك: حاجني إليك أن ترفق بابني محمد، فإنه ثمرة فؤادي وقرة عيني، وأنا أرق عليه رقة شديدة فقلت لخالصة: إن محمد مرشح للخلافة بعد أبيه، والرشيد حريص على أن يتعلم أولاده الصواب في اللغة والأدب، فكان يجب أن يطمئن إلى أن ما يلقنهم إياه الكسائي هو الصواب (3).
¥