ولا يمتنع من تحديث أحد لكونه غير صحيح النية فيه، فإنه يرجى له حصول النية من بعد.

روينا عن معمر قال: كان يقال: إن الرجل ليطلب العلم لغير الله، فيأبى عليه العلم حتى يكون لله عز وجل.

وليكن حريصاً على نشره، مبتغياً جزيل أجره. وقد كان في السلف رضي الله عنهم من يتألف الناس على حديثه، منهم (عروة بن الزبير) رضي الله عنهما.

ولْيُقتَد بمالك رضي الله عنه: فيما أخبرناه أبو القاسم الفراوي بنيسابور: أخبرنا أبو المعالي الفارسي: أخبرنا أبو بكر البيهقي الحافظ قال: أ نا أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرني إسماعيل بن محمد بن الفضل بن محمد الشعراني، حدثنا جدي: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس قال: كان مالك بن أنس إذا أراد أن يحدث توضأ، وجلس على صدر فراشه، وسرح لحيته، وتمكن في جلوسه بوقار وهيبة، وحدث. فقيل له في ذلك. فقال: أحب أن أعظم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أحدث إلا على طهارة متمكناً.

وكان يكره أن يحدث في الطريق، أو هو قائم، أو يستعجل. وقال: أحب أن أتفهم ما أحدث به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

وروي أيضاً عنه أنه كان يغتسل لذلك ويتبخر ويتطيب، فإن رفع أحد صوته في مجلسه زبره وقال: قال الله تعالى ((يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي)) فمن رفع صوته عند حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكأنما رفع صوته فوق صوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

(141) وروينا - أو: بلغنا - عن (محمد بن أحمد بن عبد الله) الفقيه أنه قال: القارئ لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام لأحد فإنه يكتب عليه خطيئة.

ويستحب له مع أهل مجلسه ما ورد عن (حبيب بن أبي ثابت) أنه قال: إن من السنة إذا حدث الرجل القوم أن يقبل عليهم جميعاً، والله أعلم.

ولا يسرد الحديث سرداً يمنع السامع من إدراك بعضه، وليفتتح مجلسه وليختتمه بذكر ودعاء يليق بالحال.

ويستحب للمحدث العارف عقد مجلس لإملاء الحديث، فإنه من أعلى مراتب الراوين، والسماع فيه من أحسن وجوه التحمل وأقواها، وليتخذ مستمليا يبلغ عنه إذا كثر الجمع، فذلك دأب أكابر المحدثين المتصدين لمثل ذلك.

وممن روي عنه ذلك: (مالك) و (شعبة) و (وكيع) و (أبو عاصم) و (يزيد بن هارون)، في عدد كثير من الأعلام السالفين.

وليكن مسُتَمليه محصلاً متيقظاً، كيلا يقع في مثل ما روينا: أن (يزيد بن هارون) سئل عن حديث، فقال: حدثنا به عدة، فصاح به مستمليه: يا أبا خالد! عدة ابن من؟ فقال له: عدة ابن فقدتك. وليستمل على موضع مرتفع من كرسي أو نحوه، فإن لم يجد استملى قائماً. وعليه أن يتبع لفظ المحدث، فيؤديه على وجهه من غير خلاف. والفائدة في استملاء المستملي: توصل من يسمع لفظ المملي على بعد منه، إلى تفهمه وتحققه بإبلاغ المستملي.

(142) وأما من لم يسمع إلا لفظ المستملي: فليس يستفيد بذلك جواز روايته لذلك عن المملي مطلقاً، من غير بيان الحال فيه. وفي هذا كلام قد تقدم في النوع الرابع والعشرين.

ويستحب افتتاح المجلس بقراءة قارئ لشيء من القرآن العظيم. فإذا فرغ استنصت المستملي أهل المجلس إن كان فيه لغط، ثم يبسمل ويحمد الله تبارك وتعالى، ويصلي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويتحرى الأبلغ في ذلك، ثم يقبل على المحدث ويقول: (من ذكرتَ) أو (ما ذكرت رحمك الله) أو (غفر الله لك) أو نحو ذلك.

وكلما انتهى إلى ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم- صلى عليه، وذكر الخطيب أنه يرفع صوته بذلك، وإذا انتهى إلى ذكر الصحابي قال (رضي الله عنه).

ويحسن بالمحدث الثناء على شيخه في حالة الرواية عنه بما هو أهل له، فقد فعل ذلك غير واحد من السلف والعلماء، كما روي عن (عطاء بن أبي رباح): أنه كان إذا حدث عن ا بن عباس رضي الله عنهما قال: (حدثني البحر) وعن وكيع: أنه قال حدثنا سفيان (أمير المؤمنين في الحديث).

وأهم من ذلك الدعاء له عند ذكره، فلا يغفلنَّ عنه.

ولا بأس بذكر من يروي عنه بما يعرف به من لقب، (كغُندر) لقب محمد بن جعفر صاحب شعبة و (لوين) لقب محمد بن سليمان المَصِيصي. أو نسبةٍ إلى أم عرف بها، كيعلى بن منية الصحابي وهو ابن أمية، ومنية أمه، وقيل: جدته أم أبيه.

أو وصف بصفة نقص في جسده عرف بها، كسليمان الأعمش، وعاصم الأحول. إلا ما يكرهه من ذلك، كما في إسماعيل بن إبراهيم، المعروف بابن علية، وهي أمه، وقيل: أم أمه. روينا عن يحيى بن معين أنه كان يقول (حدثنا إسماعيل بن علية) فنهاه أحمد بن حنبل، وقال: قل (إسماعيل بن إبراهيم) فإنه بلغني أنه كان يكره أن ينسب إلى أمه، فقال: قد قبلنا منك يا معلم الخير.

وقد استحب للملي أن يجمع في إملائه بين الرواية عن جماعة من شيوخه، مقدماً للأعلى إسناداً أو الأولى من وجه آخر. ويملي عن كل شيخ منهم حديثاً واحداً، (143) ويختار ما علا سنده وقصر متنه، فإنه أحسن وأليق. وينتقي ما يمليه ويتحرى المستفاد منه، وينبه على ما فيه من فائدة وعلو وفضيلة. ويتجنب ما لا تحتمله عقول الحاضرين، وما يخشى فيه من دخول الوهم عليهم في فهمه.

وكان من عادة غير واحد من المذكورين ختم الإملاء بشيء من الحكايات والنوادر والإنشادات بأسانيدها، وذلك حسن، والله أعلم.

وإذا قصر المحدث عن تخريج ما يمليه، فاستعان ببعض حفاظ وقته، فخرج له، فلا بأس بذلك.

قال (الخطيب): كان جماعة من شيوخنا يفعلون ذلك.

وإذا نجِز الإملاء فلا غنى عن مقابلته، وإتقانه وإصلاح ما فسد منه بزيغ القلم وطغيانه.

هذه عيون من آداب المحدث، اجتزأنا بها معرضين عن التطويل بما ليس من مهماتها، أو هو ظاهر ليس من مستبهماتها، والله الموفق والمعين، وهو أعلم.

منقول باختصار يسير

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015