معرفة آداب المحدث يا اهل الحديث

ـ[ابو محمد الغامدي]ــــــــ[24 - Sep-2007, صباحاً 07:02]ـ

قال الامام ابن الصلاح في المقدمة

النوع السابع والعشرون: معرفة آداب المحدث

وقد مضى طرف منها اقتضته الأنواع التي قبله.

علم الحديث علم شريف، يناسب مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، وينافر مساوي الأخلاق ومشاين الشيم، وهو من علوم الآخرة لا من علوم الدنيا. فمن أراد التصدي لإسماع الحديث، أو لإفادة شيء من علومه، فليقدم تصحيح النية وإخلاصها، وليطهر قلبه من الأغراض الدنيوية وأدناسها، وليحذر بلية حب الرياسة ورعوناتها.

(138) وقد اختلف في السن الذي إذا بلغه استحب له التصدي لإسماع الحديث والانتصاب لروايته. والذي نقوله: إنه متى احتيج إلى ما عنده استحب له التصدي لروايته ونشره، في أي سن كان. وروينا عن القاضي الفاضل (أبي محمد بن خلاد) رحمه الله أنه قال: الذي يصح عندي من طريق الأثر والنظر، في الحد الذي إذا بلغه الناقل حسن به أن يحدث هو: أن يستوفي الخمسين، لأنها انتهاء الكهولة، وفيها مجتمع الأشد. قال (سحيم بن وثيل):

أخو خمسين مجتمع أشُدِّي * ونجَّذني مداورة الشؤون.

قال: وليس بمنكر أن يحدث عند استيفاء الأربعين، لأنها حد الاستواء ومنتهى الكمال، نبئ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن أربعين، وفي الأربعين تتناهى عزيمة الإنسان وقوته، ويتوفر عقله، ويجود رأيه.

وأنكر القاضي (عياض) ذلك على (ابن خلاد) وقال: كم من السلف المتقدمين ومن بعدهم من المحدثين، من لم ينته إلى هذا السن ومات قبله، وقد نشر من الحديث والعلم ما لا يحصى هذا (عمر بن عبد العزيز) توفي ولم يكمل الأربعين.

و (سعيد بن جبير) لم يبلغ الخمسين. وكذلك (إبراهيم النخعي).

وهذا (مالك بن أنس) جلس للناس ابن نيف وعشرين، وقيل: ابن سبع عشرة والناس متوافرون، وشيوخه أحياء. وكذلك (محمد بن إدريس الشافعي): قد أخذ عنه العلم في سن الحداثة، وانتصب لذلك. والله أعلم.

قلت: ما ذكره (ابن خلاد) غير مستنكر، وهو محمول على أنه قاله: فيمن يتصدى للتحديث ابتداء من نفسه، من غير براعة في العلم تعجلت له قبل السن الذي ذكره. فهذا إنما ينبغي له ذلك بعد استيفاء السن المذكور، فإنه مظنة الاحتياج (139) إلى ما عنده. وأما الذين ذكرهم عياض ممن حدث قبل ذلك: فالظاهر أن ذلك لبراعة منهم في العلم تقدمت، ظهر لهم معها الاحتياج إليهم فحدثوا قبل ذلك، أو لأنهم سُئلوا ذلك إما بصريح السؤال وإما بقرينة الحال.

وأما السن الذي إذا بلغه المحدث انبغى له الإمساك عن التحديث: فهو السن الذي يخشى عليه فيه من الهرم والخرف، ويخاف عليه فيه أن يخلط ويروي ما ليس من حديثه، والناس في بلوغ هذه السن يتفاوتون بحسب اختلاف أحوالهم. وهكذا إذا عمي وخاف أن يدخل عليه ما ليس من حديثه، فليمسك عن الرواية.

وقال (ابن خلاد): أعجب إليَّ أن يمسك في الثمانين، لأنه حد الهرم، فإن كان عقله ثابتاً ورأيه مجتمعاً، يعرف حديثه ويقوم به، وتحرى أن يحدث احتساباً رجوت له خيراً.

ووجه ما قاله: أن من بلغ الثمانين ضعف حاله في الغالب، وخيف عليه الاختلال والإخلال، أو أن لا يفطن له إلا بعد أن يخلط، كما اتفق لغير واحد من الثقات، منهم (عبد الرزاق) و (سعيد بن أبي عروبة).

وقد حدث خلق بعد مجاوزة هذا السن، فساعدهم التوفيق وصحبتهم السلامة، منهم: (أنس بن مالك) و (سهل بن سعد) و (عبد الله بن أبي أوفى) من الصحابة، و (مالك)، و (الليث)، و (ابن عيينة)، و (علي بن الجعد)، في عددٍ جمٍ من المتقدمين والمتأخرين. وفيهم، غير واحد حدثوا بعد استيفاء مائة سنة، منهم: (الحسن بن عرفة)، و (أبو القاسم البغوي) و (أبو إسحاق العجيمي) و (القاضي أبو الطيب الطبري) رضي الله عنهم أجمعين، والله أعلم.

ثم إنه لا ينبغي للمحدث أن يحدث بحضرة من هو أولى منه بذلك. و كان (إبراهيم) و (الشعبي) إذا اجتمعا لم يتكلم إبراهيم بشيء. وزاد بعضهم: فكرة الرواية ببلد فيه من المحدثين من هو أولى منه، لسنه أو لغير ذلك.

(140) وينبغي للمحدث - إذا التمس منه ما يعلمه عند غيره، في بلده أو غيره، بإسناد أعلى من إسناده أو أرجح من وجه آخر - أن يعلم الطالب به ويرشده إليه، فإن الدين النصيحة.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015