و هذا التفصيل هو الحق المعقول، و معلوم أن الكذوب قد يصدق، فإذا صدقناه حيث عرفنا صدقه و استأنسنا بخبره حيث يقرب صدقه لم يكن علينا – بل لم يكن لنا – أن نصدقَه حيث لم يتبين لنا صدقه، فكيف إذا تبين لنا كذبه؟)).

36 - فصل نفيس يتعلق برواية من تلبس بنوع هوى:

قال ص 289 – 290: ((فأقول: قد عرف المحدثون هذا – يعني الكذب تشيعًا للمذاهب و تزلفاً لأصحاب المراتب – و عدةَ أسباب أخرى أشاروا إليها في البواعث على الوضع.

و إنما الفرق بينهم و بين بعض من يتعاطى النقد في عصرنا أنَّ المحدثينَ علموا أن هذين الداعيين – مثلا – لا يدعوان إلى الكذب لأنه كذب، و إنما يدعو الأول إلى ذكر ما يؤيد المذهب، و الثاني إلى ذكر ما يرضي ذا المرتبة، و إنَّ كلا من التأييد و الإرضاء ليس وقفًا على الكذب، بل يمكن أن يقع بما هو صدق، إذن فالمخبر بما يؤيد مذهبه أو يرضي رئيسه يجوز مع صرف النظر عن الأمور الأخرى أنْ يكون صادقًا و أنْ يكون كاذبًا، فالحكم بأحدهما لوجود الداعي غير سائغ، بل يجب النظر في الأمور الأخرى و منها الموانع، فإذا وجد داع و مانع و انحصر النظر فيهما تعين الأخذ بالأقوى، و كل من الدواعي و الموانع تتفاوت قوته في الأفراد تفاوتًا عظيمًا، فلا بد من مراعاة ذلك، و من تدبرَ هذا علمَ أنه الحق لا ريب فيه، و أنه يرى شواهده في نفسه و في من حواليه، و علم أنَّ ما يسلكه بعض متعاطي النقد من أهل العصر في اتهام بعض أفاضل المتقدمين بالكذب لوجود بعض الدواعي عندهم في الجملة تهورٌ مؤسفٌ.

أما أئمة الحديث فقد عرفوا الرواة و خبروهم و عرفوا أحوالهم و أخبارهم و اعتبروا مروياتهم كما تقدم في مواضع ... فمن وثقه المتثبتون منهم فمحاولة بعض العصريين اتهامه لأنه كان – مثلا – يتشيع أو يخالط بني أمية أو نحو ذلك لغوٌ لا يرتضيه العارفُ البتة.

هذا حكم يقبله علماء السنة لهم و عليهم، ألا ترى أنَّ مسلمًا صحح حديث أبي معاوية عن الأعمش عن عدي بن ثابت عن زِرٍّ قال: قال عليٌّ: (و الذي فلق الحبة و برأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إليّ أنْ لا يحبني إلا مؤمن و لا يبغضني إلا منافق)، و لا أعلم أحدًا طعن فيه، مع أنََّ عدي بن ثابت معروف بالتشيع، بل وصفه بعضهم بالغلو فيه، و كان إمام مسجد الشيعة و قاصهم، و البخاري و إن لم يخرج هذا الحديث فقد احتج بعدي بن ثابت في عدة أحاديث، و لو كان يتهمه بكذب ما في الرواية لما احتج به البتة)).

37 - عادة مسلم في ترتيب روايات الحديث في صحيحه:

قال 28 – 29: ((و ذكر – يعني أبا رية - قصة التأبير، فدونك تحقيقها:

أخرج مسلمٌ في " صحيحه " من حديث طلحة قال: ((مررتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رؤوس النخل فقال: (ما يصنع هؤلاء؟) فقالوا: يلقحونه، يجعلون الذكر في الأنثى فيلقح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أظن يغني ذلك شيئًا). قال: فأخبروا بذلك فتركوه، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: (إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنًّا فلا تؤاخذوني بالظن، و لكن إذا حدثتكم عن الله شيئًا فخذوا به فإني لنْ أكذب على اللهِ – عز و جل -).

ثم أخرجه عن رافع بن خديج و فيه: فقال: (لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرًا)، فتركوه فنقضت .. فقال: (إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به و إذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر) قال عكرمة: أو نحو هذا.

ثم أخرجه عن حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، و عن ثابت عن أنس، و فيه: فقال: (لو لم تفعلوا لصلح)، و قال في آخره: (أنتم أعلم بأمر دنياكم).

عادة مسلم أنْ يرتبَ روايات الحديث بحسب قوتها: يقدم الأصح فالأصح.

قوله صلى الله عليه وسلم في حديث طلحة: (ما أظن يغني ذلك شيئًا) إخبار عن ظنه، و كذلك كان ظنُّه، فالخبر صدق قطعًا، و خطأُ الظنِّ ليس كذبًا.

و في معناه قوله في حديث رافع: (لعلكم ... ) و ذلك كما أشار إليه مسلم أصح مما في رواية حماد، لأنَّ حمادًا كانَ يخطيء)).

و قال ص 230 – 231: ((قال – يعني أبا رية -: (و روى مسلمٌ عن أنس بن مالك أنَّ رجلا سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: متى تقوم الساعة؟ قال فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم هنيهة، ثم نظر إلى غلام بين يديه من أزْد شنوءة فقال: (إنْ عمَّر هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة)، قال أنسٌ: ذاك الغلام منْ أترابي يومئذٍ ....... ).

أقول: من عادة مسلمٍ في " صحيحه " أنه عند سياق الروايات المتفقة في الجملة يقدم الأصح فالأصح [1]، فقد يقع في الرواية المؤخرة إجمالٌ أو خطأ تبينه الرواية المقدمة.

ففي ذاك الموضع قدَّم حديثَ عائشة: كان الأعراب إذا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن الساعة متى الساعة؟ فنظر إلى أحدث إنسان منهم فقال: (إنْ يعش هذا لم يدركه الهرم قامت عليكم ساعتكم).

و هذا في " صحيح البخاري " بلفظ: كان رجال من الأعراب جفاة يأتون النبيَّ صلى الله عليه وسلم فيسألونه: متى الساعة؟ فكان ينظر إلى أصغرهم فيقول: (إنْ يعش هذا لا يدركه الهرم حتى تقوم عليكم ساعتكم) قال هشامٌ: يعني موتهم.

ثم ذكر مسلمٌ حديثَ أنسٍ بلفظ: (إنْ يعش هذا الغلام فعسى أنْ لا يدركه الهرم حتى تقوم الساعة)، ثم ذكره باللفظ الذي حكاه أبو رية، و راجع " فتح الباري " 11\ 313)).

الحاشية [1]: علق العلامة المعلمي على هذا الموضع بقوله في الحاشية: ((قد مرَّ مثال لهذا ص 18))، يعني ص 29 من المطبوع و هو المثال الأول هنا.

و قد تمت هذه الفوائد النفيسة، فليتذكر قراؤها العلامة المعلمي – رحمه الله تعالى - و جامعها العبد الفقير بالدعاء.

هذا و الله تعالى أعلم، و صلى الله على نبينا محمد و على آله و صحبه و سلم، و الحمد لله رب العالمين.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015