ألم تكن تلاوته - مجرد تلاوته - من رجل قرآني بسيط تُحْدِثُ انقلابا ربانيا عجيبا، وخرقا نورانيا غريبا في أمر المُلْكِ والملكوت؟ ألم تتنزل الملائكة ليلاً مثل مصابيح الثريا لسماع القرآن من رجل منهم، بات يَتَبَتَّلُ في سكون الدُّجَى، يناجي ربه بآيات من بعض سوره؟ () ألم يقرأ رجل آخَرُ سورةَ الفاتحة على لَدِيغٍ من بعض قبائل العرب، اعتقله سم أفعى إلى الأرض، فلبث ينتظر حتفه في بضع دقائق، حتى إذا قُرِئَتْ عليه (الحمد لله رب العالمين) – التي يحفظها اليوم كل الأطفال! - قام كأنْ لم يكن به شيء قط؟ ()
أليس هذا القرآن هو الذي صنع التاريخ والجغرافيا للمسلمين؛ فكان هذا العالم الإسلامي المترامي الأطراف؟ وكان له هذا الرصيد الحضاري العظيم، الموغل في الوجدان الإسلامي؛ بما أعجز كل أشكال الاستعمار القديمة والجديدة عن احتوائه وهضمه! فلم تنل منه معاول الهدم وآلات التدمير بشتى أنواعها وأصنافها المادية والمعنوية، وبقي - رغم الجراح العميقة جدا - متماسك الوعي بذاته وهويته!
وما كانت الأمة الإسلامية قبل نزول الآيات الأولى من (سورة العلق) شيئا مذكورا! وإنما كان هذا القرآن فكانت هذه الأمة! وكانت (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ!) (آل عمران:110)
أليس القرآن الذي نتلوه اليوم هو عينه القرآن الذي تلاه أولئك من قبل؟
فما الذي حدث لنا نحن أهلَ هذا الزمان إذن؟
ذلك هو السؤال! وتلك هي القضية!
لا شك أن السر كامِنٌ في منهج التعامل مع القرآن! وذلك هو سؤال العصر! وقد كتب غير واحد من أهل العلم والفضل حول إشكال: (كيف نتعامل مع القرآن؟) ()
ولقد أجمع السابقون واللاحقون على أن المنهج إنما هو ما كان عليه محمد e وأصحابه من أمر القرآن. فمن ذا اليوم يستطيع الصبر عليه؟ وإنما هو تَلَقٍّ للقرآن آيةً آيةً، وتَلَقٍّ عن القرآن حِكْمَةً حِكْمَةً! على سبيل التخلق الوجداني، والتَّمَثُّلِ التربوي لحقائقه الإيمانية العُمُرَ كلَّه! حتى يصير القرآن في قلب المؤمن نَفَساً طبيعيا، لا يتصرف إلا من خلاله، ولا ينطق إلا بحكمته! فإذا بتلاوته على نفسه وعلى من حوله غَيْرُ تلاوة الناس، وإذا بحركته في التاريخ غير حركة الناس!
وهكذا صنع الرسول e - بما أُنْزِلَ عليه من القرآن آيةً آيةً - نمَاذِجَ حوَّلَتْ مَجْرَى التاريخ! (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً) (الإسراء:106) فلم تكن له وسائل ضخمة ولا أجهزة معقدة! وإنما هي شِعَابٌ بين الجبال، أو بيوتٌ بسيطة، ثم مساجدُ آمنة مطمئنة! عُمْرانُهَا: صلاةٌ ومجالسُ للقرآن! وبرامجها: تلاوةٌ وتعلمٌ وتزكية بالقرآن! بدءا بشعاب مكة، ودار الأرقم بن أبي الأرقم، وانتهاءً بمسجد المدينة المنورة، عاصمة الإسلام الأولى، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام! كانت البساطة هي طابع كل شيء، وإنما العظمة كانت في القرآن، ولمن تَشَرَّبَ – بعد ذلك - روحَ القرآن!
هكذا كانت مجالسُه e ثم مجالسُ أصحابه في عهده، ومن بعده، عليه السلام مجالسَ قرآنيةً، انعقدت هنا وهناك، وتناسلت بصورة طبيعية؛ لإقامة الدين في النفس وفي المجتمع معا على السواء، وبناء النسيج الاجتماعي الإسلامي من كل الجوانب، بصورة كلية شمولية؛ بما كان من شمولية هذا القرآن، وإحاطته بكل شيء من عالم الإنسان! وذلك أمر لا يحتاج إلى برهان! واقرأ إن شئت الآية المعجزة! ولكن بشرط! اقرأ وتَدَبَّرْ! تَدَبَّرْهَا طويلا! وقِفْ عليها مَلِيّاً! حتى بعد طَيِّ صفحات هذه الورقات! فيا أيها المؤمن السائر إلى مولاه! الباحث بكل شوق عن نوره وهداه! أبْصِرْ بقلبك – إنْ كنتَ من المبصرين - قولَه تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ!) (آل عمران:164)
ولك أن تشاهد هذه الْمِنَّةَ العظمى من خلال عديلتها، وهي قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ) (الجمعة:2).
¥