قال الشيخ أحمد بن محمد البرنسي الفاسي الشهير بزروق في ختام شرحه لرسالة الإمام ابن أبي زيد القيرواني:" وجمعته من أصول معتمدة جلّها كتب المتأخرين , والعمدة مختصر الشيخ الفقيه الصالح سيدي أبي عبد الله التونسي , وربما لفّقت كلامه أو بسطته أو أتيت به على وجهه , فليراجعه من أشكل عليه شيئ من نقله " , فهو هنا يشير إلى الذي يقرأ المنقول قد يشكل عليه لكونه مُقتطعاً من سياق أو نحو ذلك.
ولئن كان ظهور المختصرات ضرباً من خدمة الفقه , وإلاّ أنّه شاع في عصر غلب فيه حفظ الفروع , وضعف حبل السند العلمي , وترافقت قوّة الحفظ هذه في الغالب مع ضعف التصرف في العلم والتعليم لقصور الملكات , وقد ذكر ابن خلدون أنّ الطالب في فاس وسائر أقطار المغرب كان يقضي ستّ عشرة سنة ليتخرج حسب منهج الحفظ هذا , ثمّ تكون ملكته قاصرة إن فاوض أو ناظر أو علّم , في حين أنه يقضي خمس سنين بتونس ليحصل على مبتغاه من الملكة العلمية , أو ييأس من الحصول عليها , حسب المنهج الثاني.
ومن العجب أن يقول ابن حزم –رحمه الله- عن الأحاديث والآثار التي أوردها في المحلّى بمناسبة كلامه على صلاة السفر:" ولم نورد إلاّ رواية مشهورة ظاهرة عند العلماء بالنّقل , وفي الكتب المتداولة عند صبيان المحدثين فكيف أهل العلم " ? , علماً بأنه نقل عن مصنفي ابن أبي شيبة , وعبد الرزاق , والبزار , فضلاً عن صحيح مسلم وغيره , قال الشيخ شاكر-رحمه الله- معلقاً:" هذه الكتب التي كانت متداولة عند صبيان المحدثين في عصر ابن حزم – القرن الخامس- ومن أهمها مصنف ابن أبي شيبة , ومصنف عبد الرزاق , واختلاف العلماء لابن المنذر , صارت في عصرنا هذا , بل وقبله بقرون من النوادر الغالية التي لا يسمع اسمها إلاّ الخواص من كبار المطّلعين على كتب السنّة , وعامة مشتغلين بالحديث لا يعرفونها ,,, ".
بل إنّه رحمه الله قال عن المباحث التي أوردها في صلاة الخوف:" وإنما كتبنا هذا للعامي والمبتدئ , وتذكرة للعالم , فنذكر هنا بعض تلك الوجوه , ومما يقرب حفظه ويسهل فهمه , ولا يضعف فعله ".
وللشاطبي حديث عن الطريق الذي ينبغي أن يسلكه من أراد طلب العلم , ومما قاله رحمه الله:" والطريق الثاني: مطالعة كتب المصنفين , ومدوني الدواوين , وهو أيضاً نافع في بابه بشرطين:
الأول: أن يحصل له من فهم مقاصد ذلك العلم المطلوب , ومعرفة اصطلاحات أهله , ما يتم له به النظر في الكتب , وذلك يحصل بالطريق الأول من مشافهة العلماء , أو مما هو راجع إليه ,,,".
ثم قال: والشرط الثاني: أن يتحرى كتب المتقدمين , من أهل العلم المراد , فإنهم أقعد به من غيرهم من المتأخرين , وأصل ذلك التجربة والخبر , أما التجربة فهو أمر مشاهد في أي علم كان , فالمتأخر لا يبلغ من الرسوخ في علم ما , ما بلغه المتقدم , وحسبك من ذلك أهل كل علم عملي أو نظري , ,, فتحقق الصحابة بعلوم الشريعة ليس كتحقق التابعين , والتابعون ليسوا كتابعيهم , وهكذا إلى الآن , ومن طالع سيرهم , وأقوالهم , وحكاياتهم , أبصر العجب في هذا المعنى ,,, إلى أن قال:" فلذلك صارت كتب المتقدمين وكلامهم أنفع لمن أراد الاحتياط في العلم على أي نوع كان , وخصوصاً علم الشريعة الذي هو العروة الوثقى والوزر الأحمى ". (الموافقات 1/ 97/99
قلت: هذا لو كان أصحاب هذه الكتب المتأخرة قد كتبوا ما كتبوا مستقلّين , أمّا أنهم ناقلون مختصرون مع ما طرأ على اللغة من تعقيد وضعف , فإنّ هذا الرجوع يزداد تأكداً , وقد توالى اختصار الأصول وتلخيصها , أو شرحها والتعليق عليها , وإضافة ما يتوصل إليه بالتخريج والقياس إليها , وتكثير احتمالاتها , حتى بعدت في كثير من المسائل عن الأصل ,قال المقرّي:" حذر بعض الناصحين من أحاديث الفقهاء , وتحميلات الشيوخ , وتخريجات المتفقهين , وإجماعات المحدثين ".
قال الشيخ محمد الخضري يبين خصائص دور الفقه السادس الذي يبتدئ من سقوط بغداد:" إن هذه الكتب العظيمة التي أبقتها لنا الاقدار من أقلام أسلافنا صارت أثراً من الآثار , ولم يعد أحد يهتم بها ولا بدراستها من زمن قديم , ,, بل تجد كبار العلماء لا يسمعون بأسمائها , وإذا رأوا في يدك كتاباً منها فقلّما يهتم أحدهم بالقراءة فيه , وقصروا أنفسهم على هذه الكتب التي كتبت في عصر التقهقر , وبذلك انقطعت الصلة بيننا وبينها من جهة الرواية الصحيحة المفيدة,,, ". (تاريخ التشريع الاسلامي)
وقد حصل تحسن كبير بالنسبة لما كان عليه الأمر في الوقت الذي يتحدث عنه الشيخ الخضري رحمه الله , وذلك بسبب العناية الكبيرة التي أوليت لنشر الأمهات , ولكثرة الكليات والمعاهد المختصّة , وما يقوم به روادها من الدراسات والبحوث.
وذكر هذه الأمور ليس الغرض منه بحال الإزراء بمؤلفات العلماء, ولا استنقاص جهودهم التي بذلوها في خدمة الفقه وغيره , جزاهم الله خيراً.
والله أعلم
¥