وروى ابن عبد البر بسنده إلى أبي حيان التيمي قال: «العلماء ثلاثة: عالم بالله وبأمر الله، وعالم بالله وليس بعالم بأمر الله، وعالم بأمر الله وليس بعالم بالله، فأما العالم بالله وبأمره: فذلك الخائف لله العالم بسنته وحدوده وفرائضه، وأما العالم بالله وليس بعالم بأمر الله فذلك الخائف لله وليس بعالم بسنته ولا حدوده ولا فرائضه، وأما العالم بأمر الله وليس بعالم بالله فذلك العالم بسنته وحدوده وفرائضه وليس بخائف له» (4).
فتأمل كيف اشترط في العالم بالله وبأمره أن يجمع بين العلم والخوف أو بين العلم والعمل. ولما أوصى الخليفة العباسي الإمام مالكا بأن يضع للناس موطأ يجتنب فيه شدائد ابن عمر ورخص ابن عباس وشواذ ابن مسعود؛ قال مالك رحمه الله معلقا: «فخرجت من عنده فقيها» (5)،
ولا شك أنه لا يريد مطلق الفقه الذي يتداوله الناس، وإنما مقصوده حقيقة الفقه وجوهره، وهو الفقه الذي يحمل الناس فيه على السماحة والرفق؛ بما لا يبغض إليهم الدين ولا يشدد عليهم فيه، وبما لا يجعلهم يتحللون من تكاليفه؛ فيأخذ بأيديهم نحو ما يصلحهم في دنياهم وآخرتهم على المعهود الوسط الذي يليق بالجمهور.
مثل هذه المعاني التي غابت عن مجالس الدرس والتعليم في أيامنا هذه هي التي جعلتنا نتساءل عن معنى الفقيه، وقد يغيب عن وعي كثير من الأساتذة والمدرسين ما الأمة بحاجة إليه في الإعداد والتكوين فتراهم حين يدرسون تاريخ الفقه الإسلامي يتحدثون عن عصر الضعف - حين اهتم علماء الأمة بالألفاظ وشرحها واختصارها ثم كتابة الهوامش والتعليقات عليها- ولكنهم هم أنفسهم لا يستطيعون الانفكاك عن مدرسة اللفظ وتغليبه على المعنى المراد منه حين يقبلون على تدريس الفقه، فبالرغم من وضوح معنى الفقه إلا أنه لا يكاد مجلس درس يحتوي على فن من فنون الفقه الإسلامي إلا وتجد شرح المصطلح يتكرر مرارا.
وقد رأينا من أساتذة الجامعة مَن ما زال يعيد تعريف" البيع"- مثلا- للطلبة ويقف عند شرح قيوده ومحترزاته ولو استغرق ذلك المحاضرة والمحاضرتين، هذا والبيع مما علم معناه وحقيقته للصبيان وعامة المسلمين!.وقد نبه الإمام الشاطبي في إحدى أفكاره على أن التعمق في التعاريف ليس من هدي السلف (6).
وتأمل جيدا في النصوص التي سقناها آنفا لترى أن فصل العلم عن العمل أو الفقه عن الخوف من الله لا يستقيم في المنهج الإسلامي، ومنه تعلم أن ما تُنشأ عليه الأجيال في الجامعات والمعاهد الإسلامية اليوم؛ من الاكتفاء بالتلقين والتثقيف العلمي دون اهتمام بالأخلاق والسلوك؛ مخالف لهدي السلف الصالح، وللمنهج الإسلامي في إعداد الكوادر والكفاءات العلمية، وربما كانت هذه الطريقة وبالا على الأمة من حيث اتخاذ هذا الفقه مطية للجدال والحجاج بغير حق، كما قال سيدنا عمر رضي الله عنه: «ثلاث يهدمن الدين: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون» (7).
إن أولى المراجعات على طريق الإصلاح للفكر الفقهي فيما نراه هو عقد ما انفرط من الصلة بين علم الفقه وبين ما يراد منه ومن علوم الشرع جميعا؛ تحقيق الخوف من الله وتربية النفوس المؤمنة، على نحو ما كتب الغزالي وابن مفلح وابن الجوزي عليهم رحمة الله.
= = = = = = = = = = = = = = = = =
1 - وفي هذا قرينة على وجاهة التساؤل الذي سقناه، وأن الحذاق من الفقهاء قد نبهوا على هذا النوع من الخلل من قديم.
2 - جامع بيان العلم: 2/ 54 3
- ذاته: 2/ 56 4
- ذاته: 2/ 60.
5 - بهجة النفوس لابن أبي جمرة: 1/ 82.وقد روي أن المنصور الخليفة العباسي قال لمالك: يا أبا عبد الله ضع هذا العلم ودونه ودون منه كتبا، وتجنب شدائد عبد الله بن عمر ورخص عبد الله بن عباس وشواذ ابن مسعود، واقصد إلى أوسط الأمور وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة رضي الله عنهم لنحمل الناس إن شاء الله على علمك وكتبك ... الخ. ترتيب المدارك: 1/ 193الديباج المذهب:1/ 5.
6 - ر: المقدمة السادسة:1/ 38 ـ41.
7 - رواه ابن عبد البر بسنده إلى سيدنا عمر رضي الله عنه: جامع بيان العلم: 2/ 135.
ـ[أبومالك المصرى]ــــــــ[25 - Mar-2010, صباحاً 01:09]ـ
لن يتوقف إن شاء الله ... هذا من أهم مواضيعي في هذا المنتدى المبارك بأصحابه، نتائج تأملي و قراءاتي، فأنا لا أستعجل في إكماله بأي شيء، سيكمل إن شاء الله ريثما أفرغ من إنهاك بعض الأفكار تأملاً.
للرفع .........
جزاكم الله خيرا
ـ[إبراهيم صالح]ــــــــ[25 - Mar-2010, صباحاً 10:13]ـ
جزاك الله خير
ـ[ابو يحيى الحنبلى]ــــــــ[25 - Mar-2010, مساء 02:55]ـ
أخالفك تماما شيخنا الكريم
أين الشيخ صالح الفوزان - أين سماحة المفتي _ أين الشيخ البراك وغيرهم كثير
أعتقد أننا في مشكلة مع طلبة العلم وليس مع المربين الربانيين
كثير من الطلبة وضع نفسه موضعهم، كثير من الطلبة استعجل في مخالفتهم، كثير منهم نازعهم في مواقعهم
هذه مشكلتنا فيما أحسب، ربنا أمرنا بالرجوع إليهم وكثير منا يقيم تصرفاتهم فالله المستعان
صدقت بارك الله فيك
ويا ليت من يخالف يخالف بأدب وعلم وفهم اذا لهان الخطب
ولكن المخالفه و النقد تكون ............. للأسف
هدانا الله جميعا لما يحب و يرضى