فعرض الفكرة على صديقيه الأستاذين الجليلين: السيد محمد الخضر حسين، والوجيه العالم أحمد تيمور باشا، وعلى مجموعة من الشبَّان (الشبَّان يومئذٍ وهم جميعاً في مثل سني)؛ منهم الأستاذ عبدالسلام هارون، وعبدالمنعم خلاف، ومحمود شاكر، وكل هؤلاء من أصدقائي.
ولئلاَّ يتنبَّه أعداء الإسلام، وما كان أكثرهم يومئذٍ، وأكثرهم في هذه الأيام =تواصوا أن يكون نشر الفكرة بحكمة، والدعوة إليها بلا إعلان.
وكان كل من سمَّيت من الشبَّان يدعو أصدقاءه، فيقبلون بها ويُقبِلُونَ على الانضمام إلى أهلها.
وكان اجتماعهم وكان لقاؤهم بالشيوخ الثلاثة: الخضر، وتيمور، ومحب الدين في المطبعة السلفية، في شارع الاستئناف، وهو شارعٌ صغير يتصل بميدان باب الخلق.
حتى إذا قويت الفكرة وانتشرت وكثر أتباعها ولم يعد يُخشى عليها عقد أول اجتماع عام لإقرار قانون الجمعية وانتخاب مجلسها الإداري، في دار سينما (كوزمو)، ودفع أجرة الدار (شوقي) أمير الشعراء من ماله.
وأعلن عن الجمعية وانتخب لرياستها (عبدالحميد سعيد)، الذي أتاه الله بسطة في الجسم، وسعة في المال، ووجاهة عند الناس، وكان عضوًا دائمًا في مجلس النواب. والسيِّد محب الدين الخطيب أميناً عامًا، وأحمد تيمور باشا أمينًا للصندوق.
واستؤجرت للجمعية دار كبيرة، في شارع قصر العيني، بجانب مجلس النواب، لما وصلتُ مصر كانت فيها.
ثم أنشأ السيد الخضر حسين (جمعية الهداية الإسلامية).
جمعية الشبَّان المسلمين لم تكن تجديداً في فهم الإسلام، ولم يكن لها عمل جدِّي في الدعوة إليه، ولا كانت تصحيحاً لمعتقدات العوام، ولا محاربة لبدعٍ كانوا يتوَّهمون أنها من الإسلام.
وإنَّما كانت -وأنا هنا لبيان الحق لا المجاملات- تنظيماً ظاهرياً فقط.
ولعلَّ اشتغال أصحابها بالرياضة وإقامة الحفلات لها أكثر من اشتغالهم بالعلم والدعوة.
وجمعية الهداية كانت تنظيماً ظاهرياً لعمل المشايخ في الدعوة إلى الله، تُلقى فيها محاضرات لا تحسُّ أنَّ فيها جديداً، أما الدعوة المنظَّمة الحقيقية فقد بدأت على يد شاب اسمه (حسن البنا). كان ممن يتردَّد على خالي محب الدين في المطبعة السلفية.
عرفته من يومئذٍ هادئ الطبع، رضيَّ الخلق، صادق الإيمان، طلق اللسان، آتاه الله قدرة عجيبة في الاقناع، وطاقة نادرة على توضيح الغامضات وحلِّ المعقَّدات والتوفيق بين المختلفين، لم يكن ثرثارا، بل كان يحسن الإصغاء كما يحسن الكلام، وضع الله له المحبة في قلوب الناس.
تخرَّج من دار العلوم في السَّنَة التي دخلت فيها الدار، لم ألقه فيها، إنَّما لقيت (سيِّد قطب) وكنت معه في فصل واحد على ما أذكر، وكلاهما أسنُّ مني بثلاث سنوات.
وأنا على طريقتي التي لزمتها عمري كله؛ لم أدخل يوماً حزباً، ولم أنتسب إلى جماعةٍ، ولا ربطتُ فكري بفكر غيري، إلاَّ أن يكون الله ألزمني باتِّباع رأيه وإطاعة أمره، من مبلِّغٍ حكم الله، او حاكم مسلم لا يأمر بما يخالف شرع الله، أو أبٍ، أو استاذٍ يأمر بخير يحبه الله.
بل إنَّ المسلم يسمع كلمة الحق من كل من ينطقه الله بها، صغيرًا كان أم كبيرًا.
أنا أسير في الخط الذي أُريتُ أنَّه الطريق الصحيح، فمن وجدُّته يمشي معي فيه أيَّدته وناصرته، وإن حاد عنه ضالاً هديته. وإن كان متعمِّداً نصحته وزجرته.
لذلك أيَّدت بقلمي وبلساني الإخوان المسلمين في مواقف، ونقدتهم في مواقف. وما رجوت شكراً على تأييد ولا وجدته. ولا خفت لوماً على نقد ولا باليته.
وذلك كله على ضعفي الذي أقرُّ به ولا أنكره، وعلى إيثاري دائماً العزلة والانفراد)).