وكلها تجري في محل واحد لا يختلط بعضها ببعض ويوجد نظيره في الدنيا وهو في رأس بنى آدم طعم عينه مالح وطعم أذنه مر وطعم فمه عذب.

فقال الحجاج: إن أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يتغوطون فهل يوجد مثلهم في الدنيا؟

فقال الغلام: الجنين في بطن أمه يأكل ويشرب ولا يتغوط.

فقال الحجاج: فما أول قطرة من دم؟

فقال الغلام: هي حيض حواء.

فقال الحجاج: فأخبرني عن العقل؟ والإيمان؟ والحياء؟ والسخاء؟ والشجاعة؟ والكرم؟ والشهوة؟

فقال الغلام: إن الله قسم العقل عشرة أقسام جعل تسعة في الرجال وواحداً في النساء,,

والإيمان عشرة تسعة في اليمن وواحداً في بقية الدنيا؛؛ والحياء عشرة تسعة في النساء وواحداً في الرجال؛؛

والسخاء عشرة تسعة في الرجال وواحداً في النساء؛؛ والشجاعة والكرم عشرة تسعة في العرب وواحداً في بقية العالم؛؛

والشهوة عشرة أقسام تسعة في النساء وواحداً في الرجال.

فقال الحجاج: فأخبرني ما يجب على المسلم في السنة مرة؟

فقال الغلام: صيام رمضان.

فقال الحجاج: وما يجب في العمر مرة؟

فقال الغلام: الحج إلى بيت الله الحرام من استطاع إليه سبيلا.

فقال الحجاج: فأخبرني عن أقرب شيء إليك؟

فقال الغلام: الآخرة.

ثم قال الحجاج: سبحان الله يأتي الحكمة من يشاء من عباده ما رأيت صبياً أتاه الله العلم والعقل والذكاء مثل هذا الغلام.

فقال الغلام: أنا أهل لذلك.

فقال الحجاج: فمن أحق الناس بالخلافة؟

فقال الغلام: الذي يعفو ويصفح ويعدل بين الناس.

فقال الحجاج: فأخبرني عن النساء؟

فقال الغلام: أتسألني عن النساء وأنا صغير لم أطّلع بعد على أحوالهن و رغائبهن ومعاشرتهن

ولكني سأذكر لك المشهور من أمورهن؛؛ فبنت العشر سنين من الحور العين؛؛ وبنت العشرين نزهة للناظرين؛؛

وبنت الثلاثين جنة نعيم؛؛وبنت الأربعين شحم ولين؛؛ وبنت الخمسين بنات وبنين؛؛

وبنت الستين ما بها فائدة للسائلين؛؛ وبنت السبعين عجوز في الغابرين؛؛ وبنت التسعين شيطان رجيم؛؛ وبنت المائة من أصحاب الجحيم.

فضحك الحجاج وقال: أي النساء أحسن؟

فقال الغلام: ذات الدلال الكامل والجمال الوافر والنطق الفصيح التي يهتز نهدها ويرتاح ردفها.

فقال له الحجاج: أخبرني عن أول من نطق في الشعر؟

فقال الغلام:سيّدنا آدم عليه السلام وذلك لما قتل قابيل أخاه هابيل.

أنشد آدم يقول:

بكت عيني وحق لها بكاها ... ودمع العين منهمل يسيح

فما لي لا أجود بسكب دمع ... و هابيل تضمّنه الضريح

رمى قابيل هابيلاً أخاه ... والحد في الثرى الوجه الصبيح

تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر كشيح

تبدل كل ذي طعم ولون ... لفقدك يا صبيح يا مليح

أيا هابيل إن تقتل فإني ... عليك الدهر مكتئب قريح

فأنت حياة من في الأرض جميعاً ... وقد فقدوك يا روح وريح

وأنت رجيح قدر يا فصيح ... سليم بل سميح بل صبيح

ولست ميت بل أنت حي ... و قابيل الشقي هو الطريح

عليه السخط من رب البرايا ... و أنت عليك تسليم صريح

فأجابه إبليس يقول:

تنوح على البلاد ومن عليها ... وفي الفردوس قد ضاق بك الفسيح

وكنت بها وزوجك في نعيم ... من المولى وقلبك مستريح

خدعتك في دهائي ثم مكري ... إلى أن فاتك العيش الرشيح

فقال الحجاج: أخبرني يا غلام عن أجود بيت قالته العرب في الكرم؟

فقال الغلام: هو بيت حاتم طي.

حيث يقول:

وأكرم الضيف حتما حين يطرقني ... قبل العيال على عسرٍ و إيسارِ

فقال الحجاج: أحسنت يا غلام وأجملت وقد غمرتنا ببحر علمك فوجب علينا إكرامك ثم أمر له بألف دينار وكسوة حسنة و جارية وسيف وفرس.

وقال الحجاج في نفسه: إن أخذ الفرس نجا .. وإن أخذ غيرها قتلته ..

فلما قدمها له قال الحجاج: خذ ما تريد يا غلام ..

فغمزته الجارية. وقالت: خذني أنا خير من الجميع فضحك الغلام وقال ليس لي بك حاجة وأنشد يقول:

و قرقعت اللجان برأس حمراً ... أحب إلىّ مما تغمزيني

أخاف إذا وقعتِ على فراشي ... وطالت علتي لا تصحبيني

أخاف إذا وقعنا في مضيقٍ ... وجار الدهر بي لا تنصريني

أخاف إذا فقدتِ المال عندي ... تميلي للخصام وتهجريني

فأجابته الجارية تقول:

معاذ الله أفعل ما تقول ... ولو قُطِعت شمالي مع يميني

وأكتم سر زوجي في ضميري ... وأقنع باليسير وما يجيني

إذا عاشرتني وعرفت طبعي ... ستعلم أنني خير القرين

فقال الحجاج: ويلك ألا تستحين تغمزينه وتجاوبينه بالشعر.

فقال الغلام: إن كنت تخيرني فإنني أختار الفرس أما إن كنت ابن حلال فتعطيني الجميع.

فقال الحجاج: خذهم لا بارك الله لك فيهم.

فقال الغلام: قبلتهم لا أخلف الله عليك غيرهم ولا جمعني بك مرة أخرى.

ثم قال الغلام: من أين أخرج يا حجاج؟

فأجابه الحجاج: أخرج من ذاك الباب فهو باب السلام.

فقال الجلساء للحجاج: هذا جلف من أجلاف العرب أتى إليك وسبَّكَ وأخذ مالك فتدله على باب السلام! ولم تدله على باب النقمة والعذاب؟

فقال الحجاج: إنه استشارني والمستشار مؤتمَن ...

وخرج الغلام من بين يدي الحجاج سالماً غانماً بفضل ذكائه وفهمه ومعرفته وحسن إطلاعه

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015