قرابة الأدب ... للدكتور محمد جمال صقر

ـ[القارئ المليجي]ــــــــ[12 - عز وجلec-2010, مساء 04:38]ـ

[1] قال محمد بن موسى: " سمعت عليَّ بن الجَهْمِ، ذكر دِعْبِلًا فكَفَّرَه ولعنه وطعن على أشياء من شعره، وقال: كان يكذب على أبي تمام، ويضع عليه الأخبار، ووالله ما كان مقاربا له. وأخذ في وصف أبي تمام؛ فقال له رجل: لو كان أبو تمام أخاك، ما زاد على مدحك له! فقال: إِلّا يَكُنْ أَخًا بالنَّسَبِ، فإنه أَخٌ بالأَدَبِ والدّينِ والمَوَدَّة. أما سمعت ما خاطبني به:

" إِنْ يُكْدِ مُطَّرَفُ الإِخاءِ فَإِنَّنا نَغْدو وَنَسْري في إِخاءٍ تالِدِ

أَوْ يَخْتَلِفْ ماءُ الوِصالِ فَماؤُنا عَذْبٌ تَحَدَّرَ مِنْ غَمامٍ واحِدِ

أَوْ يَفْتَرِقْ نَسَبٌ يُؤَلِّفْ بَيْنَنا أَدَبٌ أَقَمْناهُ مَقامَ الْوالِدِ " *.

* الصولي: " أخبار أبي تمام "، والتوحيدي: " البصائر والذخائر "، نشرة موقع الوراق الألكتروني.

[2] ولقد يَسَّرَ لنا تأدُّبُنا على محمود محمد شاكر المُتَأَدِّبِ على مصطفى صادق الرافعي-رحمهما الله! - أن نرى رأْيَ العَيْنِ، كيف يَسْتَمرُّ الأدب من المؤدِّب إلى المُتَأَدِّب، استمرارَ الدم من الأب إلى الابن، تَعْطِفُ الأولَ على الآخِرِ أُبوَّةُ التَّأْديبِ، وتَعْطِفُ الآخِرَ على الأول بُنوَّةُ التَّأَدُّب، ثم تجمعهم أُخوَّة الأَدَبِ خُيولَ رِهانٍ، تَعْدو مَعًا، وتَظْهَرُ على هذه الحياة الدنيا كَرًّا وَفَرًّا وَإقبالًا وإدْبارًا، مَعًا!

ولئن صار الرافعيُّ تراثا يَتَوارَثُهُ شاكرٌ كما قال، وحَنانًا يَأْوي إليه، لَبِما صار شاكرٌ مِقْياسَنا الذي نَقيس بِهِ الرجالَ كما قلتُ، يُثني عليه ظاهرنا وباطننا وناطقنا وصامتنا، كلٌّ يزعم أنه أصدق له ودًّا، ولطريقته اتباعا، وعليه ثناء، غير أنه يصير إلى الصمت عجزا *!

* صقر (الدكتور محمد جمال): " نجاة من النثر الفني: مقالات ومقامات "، طبعة المدني بالقاهرة، الأولى في 1421هـ=2000م، 16.

[3] ولَئِنْ كان عليُّ بْنُ الجَهْمِ كما قالوا، من كَمَلَةِ الرجال، لَبِما يُشْبِهْهُ محمود محمد شاكر، دون أن يكون كَمالُهُما إلا العَقْلَ، ولا ثَقافَتُهُما إلا الأدبَ.

نَقَلَ البغدادي - عليه وعلى بغداد السلام! -:

" الأدبُ الذي كانت العرب تعرفه، هو ما يَحْسُنُ من الأخلاق وفعل المكارم، مثلُ تركِ السفهِ، وبذلِ المجهودِ، وحسنِ اللقاءِ. قال الغَنَويُّ:

لَمْ يَمْنَعِ النّاسُ مِنّي ما أَرَدتُّ ... البيت

كأنه ينكر على نفسه أن يعطيه الناس ولا يعطيهم.

واصطلح الناس بعد الإسلام بمدة طويلة على أن يسموا العالم بالنحو والشعر وعلوم العرب، أديبا. ويسمون هذه العلوم الأدب، وذلك كلام مُوَلَّدٌ، لأن هذه العلوم حدثت في الإسلام. واشتقاقه من شيئين: يجوز أن يكون من الأَدْبِ وهو العَجَبِ، ومن الأَدْبِ مصدر قولك: أدَ بَ فُلانٌ القومَ يأدِبُهم أَدْبًا، إذا دعاهم. قال طَرَفَةُ:

نَحْنُ في الْمَشْتاةِ نَدْعو الْجَفَلى لا تَرى الْآدِبَ فينا يَنْتَقِرْ

فإذا كان من الأَدْبِ الذي هو العَجَب، فكأنه الشيء الذي يُعْجَبُ منه لحسنه، لأن صاحبه الرجل الذي يُعْجَبُ منه لفضله. وإذا كان من الأَدْب الذي هو الدعاء، فكأنه الشيء يدعو الناس إلى المحامد والفضل، فينهاهم عن المقابح والجهل. والفعل منه أدِبْتُ آدَبُ أدبا من باب فَرِحَ، فأنا أَديبٌ. والمُتَأَدِّبُ: الذي قد أخذ من الأدب بحظ، وهو مُتَفَعِّلٌ من الأَدَبِ، يقال منه أَدُبَ الرجل يأْدُبُ إذا صار أديبا، ومثل كرم، إذا صار كريما " *.

* البغدادي (عبد القادر بن عمر): " خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب "، حققه وشرحه الأستاذ عبد السلام هارون، وطبعه المدني الثانية في 1981م، ونشره الخانجي بالقاهرة، 9/ 432 - 433. ولقد أورد البيت من قبل - في 9/ 431 - هكذا:

لا يَمْنَعُ النّاسُ مِنّي ما أَرَدتُّ وَلا أُعْطيهِمُ ما أَرادوا حُسْنَ ذا أَدَبا

شاهدا على أن (حُسْنَ) فيه للمدح والتعجب.

لكأنه لما تَأَصَّلَ بالمعنى الحادث، تَأَصَّلَتْ له صيغةٌ مِنْ بابِ الْكَرَمِ الدالِّ على الطبائع الثابتة والسجايا الراسخة.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015