أقول: وقوله: "فاقض ما أنت قاض" هو الآية الثانية والسبعين من سورة طه. وقوله: (إن الله لا يُضيع أجر المصلحين يومئ إلى الآية: (إن الله لا يُضيع أجر المحسنين) (التوبة:120).
23 - وجاء في "المقامة" الثامنة المعروفة بـ "البغدادية" قوله في الصفحة 34:. . . أو لم تيأسوا أن الكتاب قد أقام له وزناً. . .
أقول: والفعل "تيأسوا" هنا بمعنى "تعلموا" وهو من قوله تعالى: (أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً) (الرعد:31).
و (ييأس) بمعنى يعلم، وهذا مما استشهد عليه النحاة واللغويون.
يقول الشاعر القديم:
أقول لهم بالشِّعب إذ يأسروني ألم تيأسوا إني ابن فارس زهدم
24 - وجاء في الصفحة 35 منها قول:. . . سبحان من علم آدم الأسماء. . . وهذا يومئ إلى الآية (وعلَّمَ آدم الأسماء كلها ... ) (البقرة:31).
25 - وجاء فيها أيضاً:
وقال: يا أولي الألباب، إن الله يرزُق من يشاء بغير حساب ...
أقول: وقوله: (إن الله يرزُق ... ) هو الآية السابعة والثلاثين من سورة آل عمران.
26 - وجاء في (المقامة) الستين المعروفة بـ "القُدسية" في الصفحة 266 قوله:. . . الحمد لله الذي جعل حرمه أمناً للعباد، ومُقاماً للعبّاد، وهو الذي خَلق فسوّى، وقدّر فهدى، وأضحك وأبكى، وأمات وأحيى، والذي جعل الأرض مهاداً، والجبال أوتاداً، وبنى فوقكم سبعاً شداداً، والذي مرج البحرين يلتقيان، بينهما برزخ لا يبغيان، وهو كل يوم في شأن، لا إله إلا هو الفرد الصمد الذي لا يلد ولم يولد، ولم يكن له كُفواً أحد ..
أقول: وجملة هذا من الكلم الشريف الذي تضمنته آيات عدة في سور مختلفات لا تخفى على كل مسلم وعى كتاب الله -سبحانه-.
خاتمة
وبعدُ. . فلا بد لي في هذه "الخاتمة" أن أعود إلى " مجمع البحرين" فأقول: إنه كتاب في "المقامات " اشتمل على ستين "مقامة"، عُرف كلُ منها باسم منسوب إلى بلد من البلدان العربية في الغالب، وقد يكون فيها ما نُسب إلى غير ذلك.
و "المقامة" كما هو معروف، ضرب من الكتابة العربية القديمة ابتدعها أصحابها في العصر العباسي، وألبسوها لوناً من الحكاية، وقد اختار كلُّ واحد من أصحاب المقامات راوياً متحدثاً يحدث عن نفسه وعن غيره. وكان الغرض من "المقامات" أن يعرض صاحبها في كل منها "لمجموع لفيف" من اللغة وأوابدها، وفرائدها، وطائفة من أمثالها، وما جاء في أسرار ألفاظها، وكيف كان من أصولها، ولا تعدم أن تجد إشارات نحوية، وصرفية، وبلاغية، وعروضية، ونحو ذلك من المعارف اللغوية والتاريخية وغيرها.
وصاحب المقامة يحكم العرض لهذه المسائل، وإنك لتقرؤها فلا تراه متعسفاً محمولاً على ما يريد بقسوة وشدة، وهذا يعني أن المواد اللغوية وما يتصل بالمعارف الأخرى تأتي وكأنها غير مقصودة لذواتها. والقارئ يقبل عليها ولا يمل مما حفلت به من أسجاع وفواصل، هي خصيصة من خصائص هذا الفن القديم.
ولنرجع إلى "مجمع البحرين" الذي أراد له صاحبه اليازجي أن يكون وعاءً لجملة هذه المعارف اللغوية القديمة، وكان في طوقه أن يكتب مقاماته على نحو ما كتب المتقدمون من أصحاب المقامات.
غير أن اليازجي ربما آمن أن "المقامة" محتاجة إلى نمط من الكلام البليغ، مع التزامه بالتقسيم القائم على الفواصل المنظومة، في تناسبها وأسجاعها. وهذا النمط من بليغ الكلام، لا يؤديه المثل القديم، والعبارة المأثورة المسجوعة، والرجز المحبب ذو النغم الراقص، ولكنه محتاج، بل مفتقر، إلى هذا العذب النمير الذي ينساب من الكلم الشريف، مما يعمر به كتاب الله وسنة نبيه الكريم. ومن أجل ذلك سعى اليازجي إلى الإفادة من لغة التنزيل العزيز، عارفاً وجه الإفادة، مهتدياً إلى الطريق إليها، فكان له ما أراد.
وقد التزم بهذا، وقد كان له أن يأتي بمقاماته من غير أن يكون منه هذا الالتزام بالكلم الشريف، ولعل هذا يدعوني إلى أن أفترض افتراضاً مفتقراً إلى أن يكون شيئاً مقرّراً مؤيداً، وهو أن اليازجي قد أحب هذا الأدب السماوي، بل آمن به، ولولا (عيسوية) وصف بها نفسه في "فاتحة مجمع البحرين"، لكان غير اليازجي اللبناني، ولقلت أسلم قلباً، وتنصر ظاهراً، بسبب ما كان من ظروف قاهرات.
قد يكون شيء من هذا!!
¥