(ثم لم يتوبوا) بعد فتنتهم للمؤمنين و المؤمنات , لم يتوبوا عن كفرهم و فتنتهم , و لم يقلعوا عما فعلوا , و يندموا على ما أسلفوا.
قال الحسن البصري: أنظروا إلى هذا الكرم و الجود , هم قتلوا أولياءه و أهل طاعته , و هو يدعوهم إلى التوبة و المغفرة.
(فلهم عذاب جهنم و لهم عذاب الحريق) أي العذاب الشديد المحرق , و ذلك أن الجزاء من جنس العمل.
(إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات) أي من هؤلاء المفتونين و غيرهم (لهم) أي في نشأتهم الأخرى (جنات تجري من تحتها الأنهار) أنهار من الماء و اللبن و الخمر و العسل (ذلك الفوز الكبير) أي التام الذي لا فوز مثله , لأنه نجاة من النار أولا و دخول الجنة ثانيا , قال تعالى " فمن زحزح عن النار و أدخل الجنة فقد فاز و ما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ".
لما ذكر تعالى ما توعد به الذين فتنوا المؤمنين و المؤمنات من أجل إيمانهم أخبر رسوله – صلى الله عليه و سلم – معرّضا بمشركي قومه و طغاتهم الذين آذوا المؤمنين في مكة من أجل إيمانهم أخبره بقوله:
(إن بطش ربك لشديد) أي إن عقوبته لأهل الجرائم و الذنوب العظام لقوية شديدة , فإنه تعالى ذو القوة المتين.
(إنه هو يُبدئ و يُعيد) أي من قوته و قدرته التامة يبدئ الخلق ثم يعيده كما بدأه , بلا ممانع و لا مدافع. قال الإمام: " و هو في كل يوم يبدئ الخلق من نبات و حيوان و غيرهما , ثم إذا هلك أعاد الله خلقه مرة أخرى , ثم هو يعيد الناس في اليوم الآخر على النحو الذي يعلمه ". و الذي يبدئ و يعيد لا يكون بطشه إلا قويا شديدا.
(و هو الغفور الودود)
" الغفور " الذي يغفر الذنوب جميعا لمن تاب – و لو كان الذنب من أي شيء كان – و يعفو عن السيئات لمن استغفره و أناب.
" الودود " أي المحب لمن أطاعه و أخلص له.
و في اقتران الودود بالغفور سر لطيف , حيث يدل ذلك على أن أهل الذنوب إذا تابوا إلى الله و أنابوا , غفر لهم ذنوبهم و أحبهم , فلا يقال: بل تُغفر ذنوبهم , و لا يَرجع إليهم الود , كما قاله بعض الغالطين.
(ذو العرش المجيد) أي: صاحب العرش العظيم العالي على جميع الخلائق. فمن عظمته أنه وسع السماوات و الأرض و الكرسي , فهي بالنسبة إلى العرش كحلقة ملقاة في فلاة , بالنسبة لسائر الأرض , و خص الله العرش بالذكر , لعظمته , و لأنه أخص المخلوقات بالقرب منه تعالى , و هذا على قراءة الجر , يكون " المجيد " نعتا للعرش , و أما على قراءة الرفع , فإنّ "المجيد" نعت لله - و كلاهما معنى صحيح - , و المجد سعة الأوصاف و عظمتها.
(فعّال لما يريد) أي لا يريد شيئا إلا فعله , فلا يحول بينه و بين مراده شيء , لأنه لا معقب لحكمه , و لا يسأل عما يفعل , لعظمته و قهره و حكمته و عدله.
(هل أتاك حديث الجنود , فرعون و ثمود) أي: هل بلغك ما أحل الله بهم من البأس , و أنزل عليهم من النقمة التي لم يردها عنهم أحد , لما طغوا و بغوا و كفروا و عصوا؟ نعم قد أتاك , قال ابن جرير: " قد أتاك ذلك , و علمته , فاصبر لأذى قومك إياك , لما نالوك به من مكروه , كما صبر الذين تجند هؤلاء الجنود عليهم من رسلي , و لا يثنينّك عن تبليغهم رسالتي , كما لم يثن الذين أرسلوا إلا هؤلاء , فإن عاقبة من لم يصدقك و يؤمن بك منهم , إلى عطب و هلاك , كالذي كان من هؤلاء الجنود ".
فالجملة تقرير لقوله " إن بطش ربك لشديد " أي: إذا أخذ الظالم أخذه أخذا أليما , أخذ عزيز مقتدر.
(بل الذين كفروا في تكذيب) أي: لا يزالون مستمرين على التكذيب و العناد , لا تنفع فيهم الآيات , و لا تُجدي لديهم العظات , لأنه تكذيب ناشئ من الكبر و الحسد و الجهل فلذا هم لم يؤمنوا بعد.
(و الله من ورائهم مُّحيط) أي: هم في قبضته و تحت قهره و سلطانه لا يخفى عليه منهم شيء , و لا يحول بينه و بينهم أحد , فمتى ما أراد أخذهم فعل.
¥