كان صاحب المحلّ ذا خلق رضيّ فاستقبلني استقبالاً حسناً (لم أذق منه ماذاقه من رب العمل الروائي الإنكليزي تشالز ديكنز , مما كان له أكبر الأثر في إخراج رائعتيه " ديفيد كوبر فيلد " و " أوليفر تويست " , وما زال الأدب يغتذي على مآسي هذه الأنفس وعذاباتها) استقبلني صاحب المحل استقبالاً حسناً ووافق على أن أعمل معه , وأخبرني بأثمان البضاعة وبشيء يسير عن طرق البيع , ثم أخذت أدرج معه وأتعلم منه , وفي ثالث يوم أو رابعه تأخر قليلاً في الحضور فبعت في غيابه بيعاً لابأس به , وأردت أن أعدّ النقود التي في الدرج حتى أخبره بما أحرزته من نجاح إذا حضر , ففاجأني ودخل علي وأنا قد شرعت لتوّي في عدّها (ماعدت أكترث لمثل هذه المواقف فيما بعد , فقد أخبرتني الدنيا أنها لاتريد أن تتجمل معي) لمّا رآني تغير وجهه , فوضعت النقود في الدرج بسرعه وأغلقته , وبعد قليل من الكلام فتحت معه موضوع عدّ النقود لأنني خشيت أن يظن بي السوء , فإذا به قد تغير وجهه لشيء آخر , قال لي: لاتعدّ النقود في أثناء البيع وأجّل ذلك إلى آخر اليوم , لأن عدّها في أثناء البيع يَذهب ببركتها , فأدركت من مقولته أن لكل أهل صنعه ضرباً من الاعتقادات المهنية , وأنه لايليق تجاوزها عند " أهل الكار " مهما بدت ضعيفة في نظر الشرع والعقل.

علّمني فيما علّمني من طرق البيع: ألا أماكس المشتري في السعر كثيراً , قال: إذا أراد المشتري نوعاً من العود وقلت له: إن أوقيّته بثلاثمئة ريال مثلاً , ورفض إلا بمئتين؛ فوافِق واختر له من العود الرديء مع الجيد ماتبلغ قيمته مئتي ريال , وهو سيظن أنه قد غلبك في السعر!

بعد أن مضى على عملي معه عشرة أيام أو تزيد وثق بي وبمعرفتي التي أصبحت تزداد , فأخذ يتأخر في الحضور , أو يخرج في أثناء العمل لقضاء بعض شؤونه , وفي إحدى الليالي بعد صلاة العشاء وكان غير موجود؛ دخلت عليّ امرأة نَصَفٌ من أهل البادية عليها البرقع , وكان في قسم من المحل أنواع من الكريستال الفاخر مما يوضع فيه الطيب , فأخذت واحدة من هذه الكريستالات وقالت لي: إن في السيارة امراة كبيرة في السن , وأريد أن اذهب إليها بالقطعة حتى تراها لأن الحضور إلى المحل مما يشق عليها , قالت ذلك ولمع في عينيها ومضٌ غريب ارتبت له (كان أخونا الكبير الواحدي قد قال: إن وحي اللحظة المبدعة لايخطئ) ارتبت لكني استحييت منها وسمحت لها بأخذ القطعة الثمينة .. ثم إنه حضر صاحب المحل بعد قليل ومضى يبيع ويشتري , مرت ساعة وساعتان وهي لم ترجع , فأخذني حرج شديد لاأدري ماذا أصنع , ورحت أدعو الله في سري وأنا في حالة سيئه أن تعود , فلما تأخر الوقت وشارفنا على إغلاق المحل أدركت أني كنت ضحية هذه السارقة , فجمعت نفسي وأخبرت صاحب المحل بما جرى لي , فقال في مروءة وابتسامة: وقَعتَ هذه المرة لابأس , ثم روى لي كثيراً من القصص مما يشبه هذه , وقال: إن أهل السوق يعلمون أن بعض النساء من أضعف خلق الله أمام إغراء البضاعة , فربما سرقت أحداهن وربما فرّطت في عرضها .. لكنه عاد وقال: إذا طلب منك أحد مرة أخرى مثل هذا الطلب فلا تمنعه , لاتجعل السيئ من الناس يُفقدك الحَسَن منهم .. فشكرته ووعدته خيراً , ورجعت إلى البيت يلمع في خيالي وميض تلك العينين وهي تقارف الإثم , ويتردد في نفسي خليط من المعاني عن غفلة الإنسان وضعفه , وحكمة الحياة هذه التي لاتنال إلا بمطاولة الأيام وعناء الأنفس.

لم أستمر في العمل طويلاً , فبعد شهر ونيّف كنت أقلّب بعض العطورات , فانتبهت هكذا (ماأكثر بدَواتي وما أشد ماجنته عليّ) وقلت: مالي ولمثل هذا العمل فما خلقت له , وخرجت من المحل أسعى على وجهي , ثم لم أعد إليه إلى يوم الناس هذا .. وإن كنت ندمت؛ فإنما هو على ماأسأت به من تصرفي إلى صاحب العمل الطيب , فقد بحث عني كثيراً , ووسط أخاه حتى أرجع فما أحببت الرجوع , ليس بي إلى مدح نفسي فما عرض أحد خيباته كما عرضتها , لكني على مافي من سوء كثير؛ كنت أتقن مايوكل إلي من عمل , فالحمدلله على كل حال.

خرجت من هذه التجربه بأمور:

1 - أن درس الحياة قاسٍ فهي لاتمنحنا حكمتها بالمجّانّ " ففي المدرسة نتعلم الدرس ثم نختبر , وأما الحياة فتختبرنا ثم تعلمنا الدرس .. ".

2 - أنه يوجد في بعض العامة من سداد البصيرة وحسن التأتي؛ مالا يوجد مثله عند بعض الكبار من شيوخ العلم.

3 - أن لكل مهنه أسرارها , وأنك لن تدركها مهما أوتيت من ذكاء حتى تمارسها , فسبحان معلم الخلق.

4 - ألا أسمح لقبح الأنفس بأن يفسد عليّ جمال نفسي , قال العقاد في كلمة له: إن الناس فيهم الكاذب والخائن والغشاش .. فلو أنك عاملت كل إنسان بما فيه من صفة السوء؛ لتجمع فيك ماتفرق في هؤلاء من الصفات فأصبحت أحط الناس.

ياهناه: لاتسمح لقبح الأنفس بأن يفسد عليك جمال نفسك .. وإلى موقف آخر مودَّعين بنفح عود يتضوّع منه شذا عَرفه ..

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015