هذه حال من كفر و فجر , كفر بالله و بآياته و لقائه و رسوله , أو فجر عن طاعة الله و رسوله فترك الفرائض و غشي المحارم.

(وجوه يومئذ ناعمة) أي: قد جرت عليهم نضرة النعيم , فنضرت أبدانهم , و استنارت وجوههم , و سروا غاية السرور.

(لسعيها راضية) أي: راضية بما قدمته في الدنيا من الأعمال الصالحة , و الإحسان إلى عباد الله , إذ وجدت ثوابه مدخرا مضاعفا , فحمدت عقباه , و حصل لها كل ما تتمناه.

(في جنة عالية) عالية في محالها و منازلها , فمحلها في أعلى عليين , و منازلها مساكن عالية , لها غرف و من فوق الغرف غرف مبنية يشرفون منها على ما أعد الله لهم من الكرامة.

(لا تسمع فيها لاغية) أي: لا تسمع في الجنة التي هم فيها كلمة لغو و باطل , فضلا عن الكلام المحرم , بل كلامهم كلام حسن نافع مشتمل على ذكر الله تعالى , و ذكر نعمه المتواترة عليهم , و على الآداب المستحسنة بين المتعاشرين الذي يسر القلوب , و يشرح الصدور.

(فيها عين جارية) أي: لا انقطاع لها.

و ليس المراد بها عينا واحدة , و إنما هذا إسم جنس , يعني: فيها عيون جاريات يفجرونها و يصرفونها كيف شاؤوا , و أنَّى أرادوا.

(فيها سرر مرفوعة) و السرر جمع سرير. و هي المجالس المرتفعة في ذاتها , و بما عليها من الفرش اللينة الوطيئة , إذا جلسوا عليها رأوا جميع ما خولوه من النعيم و الملك.

(و أكواب موضوعة) أي: أوانٍ ممتلئة من أنواع الأشربة اللذيذة , قد وضعت بين أيديهم , و أعدت لهم , و صارت تحت طلبهم و اختيارهم , يطوف بها عليهم الولدان المخلدون. و الكوب هو إناء لا أُذن له.

(و نمارق مصفوفة) وسائد من الحرير و الإستبرق و غيرهما مما لا يعلمه إلا الله , قد صُفت للجلوس و الإتكاء عليها , و قد أريحوا عن أن يضعوها , و يَصُفُّوها بأنفسهم.

(و زرابي مبثوثة) أي: البسط الحسان , مملوءة بها مجالسهم , مفروشة هنا و هناك لمن أراد الجلوس عليها.

يقول الله تعالى حثًّا للذين لا يصدقون الرسول صلى الله عليه و سلم , و لغيرهم من الناس , أن يتفكروا في مخلوقات الله الدالة على توحيده:

(أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت) فإنها خَلق عجيب , و تركيبها غريب , فإنها في غاية القوة و الشدة , و هي مع ذلك تلين للحمل الثقيل , و تنقاد للقائد الضعيف , و تصبر على الجوع و العطش , و تكتفي بما يتيسر لها من شوك و شجر و غير ذلك , مما لا يكاد يرعاه سائر البهائم , و تؤِكل , و ينتفع بوبرها , و يشرب لبنها. و قد نبهوا بذلك لأن العرب غالب دوابهم كانت الإبل.

(و إلى السماء كيف رفعت) أي: كيف رفعها الله عز و جل , عن الأرض هذا الرفع العظيم , بغير عمد يدعمها و لا سند يسندها. و كيف رفعت كواكبها رفعا سحيق المدى , و أمسك كل منها في مداره إمساكا لا يختل سيره و لا يفسد نظامه.

(و إلى الجبال كيف نصبت) أي: جعلت منصوبة قائمة ثابتة راسية , بهيئة باهرة , حصل بها استقرار الأرض و ثباتها عن الإضطراب بأهلها , و جعل فيها ما جعل من المنافع و المعادن.

(و إلى الأرض كيف سطحت) أي بسطت و مهدت , حسبما يقتضيه صلاح أمور ما عليها من الخلائق , فمدت مدًا واسعًا , و سهلت غاية التسهيل. ليستقروا على ظهرها , و يتمكنوا من حرثها و غرسها , و البنيان فيها , و سلوك الطرق الموصلة إلى أنواع المقاصد فيها.

و اعلم أن تسطيحها لا ينافي أنها كرة مستديرة , قد أحاطت الأفلاك فيها من جميع جوانبها , كما دل على ذلك النقل و العقل و الحس و المشاهد , كما هو مذكور معروف عند أكثر الناس , خصوصا في هذه الأزمنة , التي وقف الناس على أكثر أرجائها بما أعطاهم الله من الأسباب المقربة للبعيد , فإن التسطيح إنما ينافي كروية الجسم الصغير جدا , الذي لو سطح لم يبق له استدارة تذكر. و أما جسم الأرض الذي هو في غاية الكبر و السعة , فيكون كرويا مسطحا , و لا يتنافى الأمران , كما يعرف ذلك أرباب الخبرة.

ففي هذه الآيات -" أفلا ينظرون .... سطحت "- نبّه الله تعالى البدوي على الإستدلال بما يشاهده من بعيره الذي هو راكب عليه , و السماء التي فوق رأسه , و الجبل الذي تجاهه , و الأرض التي تحته , على قدرة خالق ذلك و صانعه , و أنه الرب العظيم الخالق المتصرف المالك , و أنه الإله الذي لا يستحق العبادة سواه. قال الزمخشري: و المعنى أفلا ينظرون إلى هذه المخلوقات الشاهدة على قدرة الخالق , حتى لا ينكروا اقتداره على البعث , فيسمعوا إنذار الرسول صلى الله عليه و سلم و يؤمنوا و يستعدوا للقائه.

(فذكّر إنما أنت مذكّر , لست عليهم بمسيطر) أي فذكّر – يا محمد – الناس بما أرسلت به إليهم , فإنما عليك البلاغ و علينا الحساب , و لهذا قال " لست عليهم بمسيطر " أي لم تبعث مسيطرا عليهم , مسلطا موكّلا بأعمالهم , فإذا قمت بما عليك , فلا عليك بعد ذلك لوم , قال تعالى " و ما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ".

قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله , فإذا قالوها عصموا مني دماءهم و أموالهم إلا بحقها , و حسباهم على الله عز و جل " , ثم قرأ " فذكّر إنما أنت مذكّر , لست عليهم بمسيطر " رواه مسلم.

(إلا من تولى و كفر) أي: تولى عن العمل بأركانه , و كفر بالحق بجنانه و لسانه , و هذه كقوله تعالى " فلا صدق و لا صلى , و لكن كذّب و تولّى "

(فيعذّبه الله العذاب الأكبر) أي: الشديد الدائم , و هو عذاب الآخرة

(إنّ إلينا إيابهم) أي رجوعهم إلينا لا إلى غيرنا , بالموت و البعث.

(ثم إنّ علينا حسابهم) أي: نحن نحاسبهم على أعمالهم و نجازيهم بها , إن خيرا فخير , و إن شرا فشر. لذا فلا يضرك يا رسولنا إعراضهم و لا توليهم , و حسبك تذكيرهم فمن اهتدى نجا و نجاته لنفسه , و من ضلّ فإنما يضل عليها إذ عاقبة ضلاله و هي الخسران التام عائدة عليه.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015