أحدهما في غاية المدح، والآخر في غاية الذم، وهما:

مطرح الدنيا، ومطرح الحياء.

من عجيب تدبير الله عز وجل للعالم أن كل شيء اشتدت الحاجة إليه كان ذلك أهون له، وتأمل ذلك في الماء فما فوقه.

وكل شيء اشتد الغنى عنه كان ذلك أعز له، وتأمل في الياقوت الأحمر فما دونه.

الناس فيما يعانونه كالماشي في الفلاة كلما قطع أرضاً بدت له أرضون، وكلما قضى المرء سبباً حدثت له أسباب.

صدق من قال: إن العاقل معذب في الدنيا. وصدق من قال: إنه فيها مستريح!

فأما تعذيبه ففيما يرى من انتشار الباطل، وغلبة دولته، وبما يحال بينه وبينه من إظهار الحق.

وأما راحته فمن كل ما يهتم به سائر الناس من فضول الدنيا.

إياك وموافقة الجليس السيئ ومساعدة أهل زمانك فيما يضرك في أخراك أو في دنياك؛ وإن قل، فإنك لا تستفيد بذلك إلا الندامة حيث لا ينفعك الندم، ولن يحمدك من ساعدته بل يشمت بك. وأقل ما في ذلك وهو المضمون أنه لا يبالي بسوء عاقبتك وفساد مغبتك.

وإياك ومخالفة الجليس ومعارضة أهل زمانك فيما لا يضرك في دنياك ولا في أخراك؛ وإن قل فإنك تستفيد بذلك الأذى والمنافرة والعداوة، وربما أدى ذلك إلى المطالبة والضرر العظيم دون منفعة أصلاً.

إن لم يكن بد من إغضاب الناس أو إغضاب الله عز وجل ولم يكن لك مندوحة عن منافرة الخلق أو منافرة الحق فاغضب الناس ونافرهم ولا تغضب ربك ولا تنافر الحق.

الاتساء بالنبي صلى الله عليه وسلم في وعظ أهل الجهل والمعاصي والرذائل واجب فمن وعظ بالجفاء والاكفهرار فقد أخطأ وتعدى طريقته صلى الله عليه وسلم، وصار في أكثر الأمر مغرياً للموعوظ بالتمادي على أمره لجاجاً وحرداً ومغايظة للواعظ الجافي = فيكون في وعظه مسيئاً لا محسناً.

ومن وعظ ببشر وتبسم ولين وكأنه مشير برأي، ومخبر عن غير الموعوظ بما يستفتح من الموعوظ، فذلك أبلغ وأنجع في الموعظة.

فإن لم يتقبل فلينتقل إلى الموعظة بالتحشيم، وفي الخلاء فإن لم يقبل، ففي حضرة من يستحي منه الموعوظ، فهذا أدب الله في أمره بالقول واللين.

ومما ينجع في الوعظ أيضاً الثناء بحضرة المسيء على من فعل خلاف فعله، فهذا داعية إلى عمل الخير.

وما أعلم لحب المدح فضلاً إلا هذا وحده، وهو: أن يقتدي به من يسمع الثناء؛ ولهذا يجب أن تؤرخ الفضائل والرذائل = لينفر سامعها عن القبيح المأثور عن غيره، ويرغب في الحسن المنقول عمن تقدمه ويتعظ بما سلف.

من امتحن بالعجب فليفكر في عيوبه، فإن أعجب بفضائله، فليفتش ما فيه من الأخلاق الدنيئة فإن خفيت عليه عيوبه جملة حتى يظن أنه لا عيب فيه؛ فليعلم أن مصيبته إلى الأبد وأنه لأتم الناس نقصاً، وأعظمهم عيوباً.، وأضعفهم تمييزاً.

وأول ذلك أنه ضعيف العقل جاهل، ولا عيب أشد من هذين؛ لأن العاقل هو من ميز عيوب نفسه فغالَبَها وسعى في قمعها.

والأحمق هو الذي يجهل عيوب نفسه إما لقلة علمه وتمييزه وضعف فكرته.

وإما لأنه يقدر أن عيوبه خصال! وهذا أشد عيب في الأرض.

وفي الناس كثير يفخرون بالزنا واللياطة والسرقة والظلم؛ فيُعْجَب بتأتي هذه النحوس له وبقوته على هذه المخازي.

واعلم يقيناً أنه لا يسلم إنسي من نقص حاشا الأنبياء صلوات الله عليهم فمن خفيت عليه عيوب نفسه فقد سقط، وصار من السخف والضعة والرذالة والخسة وضعف التمييز والعقل وقلة الفهم بحيث لا يتخلف عنه مختلف من الأرذال، وبحيث ليس تحته منزلة من الدناءة! فليتدارك نفسه بالبحث عن عيوبه والاشتغال بذلك عن الإعجاب بها، وعن عيوب غيره التي لا تضره في الدنيا ولا في الآخرة.

وما أدري لسماع عيوب الناس خصلة إلا الاتعاظ بما يسمع المرء منها، فيجتنبها ويسعى في إزالة ما فيه منها بحول الله تعالى وقوته.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015