أهلك وبنيك ما يُغْنِيْهم عنك يوم يفقدون وجهك, وهدأت نفسي بعد ثورتها وجماحها, فأصبحت سمحاً كريماً, عفواً غفوراً, لا أبغض أحداً, ولا أحقد على أحد, ولا أقابل ذنباً بعقوبة, ولا إساءةً بمثلها, كأنني أقول في نفسي: مالي وللعالم ولما يحويه من خير وشر وأنا مفارقه وشيكاً, إن لم يكن اليوم فغداً, وأخذت أتحدث عن الماضي أكثر مما أتحدث عن الحاضر, لا لأنَّ الأول أجمل من الثاني؛ بل لأن الشبيبة أجمل من الشيخوخة, وذكرت الجلسة البسيطة التي كنت أجلسها أيام الطلب في غرفتي العادية الصغيرة بين زملائي الفقراء البسطاء؛ فبكيتها، ورثيتها، ولم تُنْسِني إياها جلستي اليوم في منزلي الأنيق الجميل بين خير الناس أدباً وفضلاً ومجداً وشرفاً؛ لأن الأولى كانت في سماء الأحلام الحلوة اللذيذة , أمَّا الثانية ففي أرض الحقيقة المرة المؤلمة, وكنت أنعم في صبايَ بكثير من الملاذ الوهمية الكاذبة, فكنت أجد في نفسي غبطة عظمى حينما أجلس لمطالعة قصة ألف ليلة وليلة, أو سيرة سيف بن ذي يزن, أو حروب عنترة, أو وقائع أبي زيد، أو أساطير الجن والشياطين، وحين آوي إلى مضجعي فأرى في منامي رؤى بديعة، يجتمع لي فيها جميع ما أحب وأشتهي من مطامع الحياة، ومآربها، وملاذ العيش، ومباهجه.

والآن وقد حرمت ذلك كله منذ الساعة التي عرفت فيها أن أساطير الأولين أكاذيب وأباطيل، وأن الرؤى والأحلام هوسٌ وجنون, وأنَّ الأولياء والصالحين أحياء كانوا أو أمواتاً في شاغل بأنفسهم عن غيرهم لا يستطيعون نفعاً ولا ضراً؟ أي أنني شقيت حين علمت, وكنت سعيداً قبل أن أعلم، وكان كل ما أفكر فيه أن أشيد لي بيتاً جميلاً أعيش فيه عيش السعداء الآمنين في مدينة الأحياء, فأصبحت وكل ما أفكر فيه الآن أن أبنيَ لي قبراً بسيطاً يضم رفاتي في مدينة الأموات.

وكنت أدهش لبلاغة البليغ, وذلاقة الخطيب, وبراعة الشاعر، وقدرة الكاتب الصائغ، ونبوغ المبتكر, وأطرب لكل عظيم وجليل مما أرى ومما أسمع, فأصبحت لا أدهش لشيء، ولا أعجب من شيء؛ لأن مرآة نفسي قد صدئت؛ فلا ينطبع فيها غير الكوكب الفخم العظيم, وأين ذلك الكوكب فيما يقع عليه نظري من كوكب السماء ونجومها، ما أنا بآسف على الموت يوم يأتيني, فالموت غاية كل حي, ولكني أرى أمامي عالماً مجهولاً، لا أعلم ما يكون حظي منه، وأترك ورائي أطفالاً صغاراً لا أعلم كيف يعيشون من بعدي، ولولا ما أمامي ومن ورائي ما باليت أسقطت على الموت، أم سقط الموت علي؟!

لكن ما أراده الله, أما ما أمامي فالله يعلم أني ما ألممت في حياتي بمعصية إلا وترددت فيها قبل الإلمام بها, ثم ندمت عليها بعد وقوعها, ولا شككت يوماً من الأيام في آيات الله وكتبه, ولا في ملائكته ورسله, ولا في قضائه وقدره, ولا أذعنت لسلطان غير سلطانه, ولا لعظمة غير عظمته, وما أحسب أنه يحاسبني حساباً عسيراً على ما فرطت في جنبه بعد ذلك.

وأمَّا من ورائي فالله الذي يتولى السائمة في مرتعها, والقطاة في أفحوصها, والعصفور في عشه، والفرخ في وكره - سيتولى هؤلاء الأطفال المساكين، وسيبسط عليهم رحمته وإحسانه، وداعاً يا عهد الشباب, فقد ودَّعْتُ بوداعك الحياة, وما الحياة إلا تلك الخفقات التي يخفقها القلب في مطلع العمر, فإذا هدأت فقد هدأ كل شيء, وانقضى كل شيء!

أيا عهد الشباب وكنت تندى على أفياء سرحتك السلام

مصطفى لطفي المنفلوطي

ـ[عبد الكريم]ــــــــ[20 - Feb-2007, مساء 01:57]ـ

مقالة جميلة ورائعة للمنفلوطي.

ـ[ظاعنة]ــــــــ[21 - Feb-2007, مساء 01:12]ـ

" حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعنى أن أشكر نعمتك التى أنعمت علىّ "

الله المستعان ..

ـ[أحمد الصوابي]ــــــــ[19 - Oct-2009, صباحاً 10:01]ـ

رحم الله المنفلوطي

و جزاك خيرا يا أخي العزيز

طور بواسطة نورين ميديا © 2015