ـ[نياف]ــــــــ[20 - Feb-2007, مساء 01:24]ـ
((الأربعون))
الآن وصلت إلى قمة هرم الحياة, والآن بدأت أنحدر في جانبه الآخر, ولا أعلم هل استطيع أن أهبط بهدوء وسكون حتى أصل إلى السفح بسلام ,أو أعثر في طريقي عبرة [2] تهوي بي إلى المصرع الأخير هوياً.
سلام عليك أيها الماضي الجميل ,لقد كنت ميداناً فسيحاً للآمال والأحلام، وكنَّا نطير في أجوائك البديعة الطلقة غادين رائحين طيران الحمائم البيضاء في آفاق السماء, لا نشكو ولا نتألم, ولا نضجر ولا نسأم, بل [3] نعتقد أن في العالم هموماً وآلاماً, وكان كل شيء في نظرنا جميلاً حتى الحاجة والفاقة، واحتمال أعباء الحياة وأثقالها، كان كل منظر من مناظرك قد لبس ثوباً قشيباً من نسيج الزهر الأبيض , فأصبح فتنة الأنظار, وشَرَكَ الألباب! وكان يخيل إلينا أن هذا الزورق الجميل الذي ينحدر بنا في بحيرتك الصافية الرائقة سيستمر في طريقه مطرداً مندفعاً لا يعترضه معترض, ولا يلوى به عن طريقه لا وإلى ما لا نهاية لاطِّراده وتَدَفُّعه.
وكان كل ما نعالج فيك من آلام وهموم, أن يكون لنا مأربان من مآرب الحياة, فنظفر بأحدهما ويفوتنا الآخر، أو غرضان من أغراضها, فنصل إلى القريب, ونبيت دون البعيد.
وكان كل ما يستذرف الدمع من أعيننا هجر حبيب، أو طلعة رقيب، أو أرق ليلة، أو ضجر ساعة, أو نظرة شزر يلقيها بغيض, أو نفثة شرٍّ يرمينا بها حقود, ثم لا تلبث مسراتنا ومباهجنا أن تطرد تلك الآلام أمامها كما يطرد النهر المتدفق الأقذار والأكدار بين يده، وتسلم لنا الحياة سائغة لا كدر فيها، ولا تنغيص.
سلام عليك أيها الشباب الذاهب, سلام على دوحتك الفينانة الغَنَّاء, التي كنَّا نمرح في ظلالها مرح الظباء العُفْر في رملتها الوعثاء، ننظر إلى السماء فيُخيَّلُ إلينا أنها مغدى ومِراحٌ لنا, وإلى الآفاق البعيدة فيُخيل إلينا أنها مجرى سوابقنا ومجرّ رماحنا, فكأن العالم كله مملكتنا الواسعة العظيمة التي نسيطر عليها ونتصرف في أي أقطارها شئنا.
أبكيك يا عهد الشباب, لا لأنني تمتعت فيك براحٍ [4] أو غزَل , ولا لأني ركبت مطيتك إلى لهو أو لعب, ولا لأني ذقت فيك العيش بارد الهواء كما يذوقه الناعمون المترفون، بل لأنك كنت الشباب وكفى.
أبكيك لأني كنت أرى في سمائك نجم الأمل لامعاً متلألئاً يؤنسني منظره، ويطربني لألاؤه، وينفذ إلى أعماق قلبي شعاعه المتوهج الملتهب، فلما ذهبت ذهب بذهابك، فأصبح منظر تلك السماء منظرَ فلاةٍ موحشةٍ مظلمة لا يضيئها كوكب, ولا يلمع فيها شعاع.
أجل, لم أتمتع فيك بمتعة من المتع , ولا بلذة من الملاذ , ولا نلت في عهدك مأرباً من مآرب المجد أو الجاه, ولكني كنت أؤمل وأرجو، وبذلك الأمل كنت أعيش وتحت ظلال ذلك الرجاء كنت أهنأ وأنعم.
أما اليوم وقد بدأت أنحدر من قمة الحياة إلى جانبها الآخر فقد احتجب عني كل شيء، ولم يبق بين يدي مما أفكر فيه إلاَّ أن أُعِدَّ عُدتي لتلك الساعة الرهيبة التي انحدر فيها إلى قبري.
مضى عهد الشباب وبدأت أختلف إلى الأطباء الثلاثة: طبيب العيون, وطبيب المعدة, وطبيب الأسنان, وتقاربت خطواتي فأصبح فرسخي ميلاً, وباعي ذراعاً, ونعى الناعون إليَّ كثيراً من أصحابي وأترابي أي أنهم نعوا إليَّ نفسي، ورأيت أصدقائي الذين نشأت معهم في طريقي، فأنكرت استحالة حالهم واغبرار وجوههم, واحمرار خدودهم, وابيضاض شعورهم, فعلمت أني أولهم وأنهم ينكرون مني ما أنكر منهم، ودعا لي الداعون بالقوة والنشاط وطول البقاء، وحسن الختام, أي أن قوتي في هبوط, ونشاطي في اضمحلال، وسلامتي في خطر، وحياتي على وشك الانحدار إلى مغربها, ومررت بمجامع الشُبَّان الحافلة بالقوة، والنشاط والمرح والسرور؛ فخيل إليَّ أنني غريب عنهم لا صلة لي بهم، ولا شأن لي معهم, وأنني أعيش في عالم غير العالم الذي يعيشون فيه، وانتقلت من النظر في شأن نفسي, وشأن مستقبلي إلى النظر في شأن أولادي وشأن مستقبلهم؛ لأن مستقبلي أصبح ماضياً, وغداً أصبح أمس لا رجعةَ له إلى الأبد, وسمعت كلمة =الجدّ+ يهتف بها أحفادي الصغار, فلم أنكرها ولم أبتئس كأنني معترف أنها الكلمة التي يجب أن أسمعها, ونصحني الناصحون بالاقتصاد والتدبير؛ إبقاءاً على مصلحة أولادي الفقراء, كأنهم يقولون لي: إنك موشك أن ترحل، فأَعِدَّ لمن وراءك من
¥