ما قال به إلاّ الجهمية الكبرى من أهل وحدة الوجود ومن قلدهم من جهال المتصوفة أو نقل عنهم، وهو دليل عندهم على أن كل ما في الوجود واحد في أصله، ومن هؤلاء ابن عربي محي الدين صاحب فصوص الحكم، والفتوحات المكية، والإدريسية، فقد تمسك بهذا الحديث الموضوع وخلطه بموضوعات أخرى مثل حديث (كنت نبياً وآدم بين الماء والطين) الذي سبقت الإشارة إليه، واستدل به على مذهبه، فزعم أن حديث (كنت نبياً وآدم بين الماء والطين) إشارة إلى أن نبوته كانت موجودة في أول خلق الزمان في عالم الغيب دون عالم الشهادة, فلما انتهى الزمان بالاسم الباطن إلى وجود جسمه, وارتباط الروح به, انتقل حكم الزمان في جريانه إلى الاسم الظاهر, فظهر بذاته جسما وروحا" ولو اكتفى بهذا لصح التماس العذر له في أن مراده قولاً قريباً من قول السبكي كما زعم المناوي- رحمه الله- ولكنه صرح عن مراده بقوله في الفتوحات: " فكان الحكم له باطنا أو في كل ما ظهر من الشرائع على أيدي الأنبياء والرسل ثم صار الحكم له ظاهرا فنسخ كل شرع أبرزه الاسم الباطن بحكم الاسم الظاهر لبيان اختلاف حكم الاسمين وإن كان الشرع واحدا, وآدم بين الروح والجسد" ثم زاد في التصريح فقال: " فكل بني آدم من لدن آدم إلى آخر نبي, ما منهم أحد يأخذ إلا من مشكاة خاتم النبيين وإن تأخر وجود طينته فإنه بحقيقته موجود, وهو قوله كنت نبيا وآدم بين الماء والطين" ثم ضرب مثالاً قائلاً: " وبهذا العلم سمي شيث لأنه معناه هبة الله فبيده مفتاح العطايا على اختلاف أصنافها ونسبها, فإن الله وهبه لآدم أول ما وهبه, وما وهبه إلا منه, لأن الولد سر أبيه فمنه خرج وإليه عاد, فما أباه غريب لمن عقل عن الله. وكل عطاء في الكون على هذا المجرى. فما في أحد من الله شيء, وما في أحد من سوى نفسه شيء وإن تنوعت عليه الصور" ثم صرح بمراده بأبين من هذا لمّا قال: " فأي صاحب كشف شاهد صورة تلقى إليه ما لم يكن عنده من المعارف وتحنه ما لم يكن قبل ذلك في يده فتلك الصورة عينه لا غيره, فمن شجرة نفسه جنى ثمرة غرسه" وقد قال في الفتوحات: "ولما رأينا أن النهاية أشرف من البداية، قلنا من عرف نفسه عرف ربه، والاسم سلم للمسمى، ولما علمنا أن روح الرحيم عمل في روح (باسم) لكونه نبياً وآدم بين الماء والطين، علمنا أن (باسم) هو الرحيم، فانعدمت البداية والنهاية والشرك والتوحيد، وظهر عز الاتحاد وسلطانه، فمحمد للجمع وآدم للتفريق".
وقال في الإدريسية: " فهو العلي لذاته, أو عن ماذا وما هو إلا هو؟ فعلوه لنفسه وهو من حيث الوجود عين الموجوات. فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها, وليست إلا هو. فهو العلي لا علو إضافة, لأن الأعيان التي لها العدم, الثابتة فيه, ما شمت رائحة من الوجود فهي على حالها مع تعداد الصور في الموجودات, والعين واحدة من المجموع في المجموع".
ثم قال: " ومن عرف ما قررناه في الأعداد, وأن نفيها عين إثباتها, علم أن الحق المنزه هو الخلق المشبه, وإن كان قد تميز الخلق من الخالق بالأمر الخالق المخلوق, والأمر المخلوق الخالق, كل ذلك من عين واحدة, لا بل هو العين الواحدة, وهو العيون الكثيرة. (فانظر ماذا ترى؟ قال: يا أبت افعل ما تؤمر) والولد عين أبيه, فما رأى يذبح سوى نفسه, (وفداه بذبح عظيم) فظهر بصورة كبش من ظهر بصورة إنسان، وظهر بصورة والد لا بل بحكم ولد، والوالد من هو عين الوالد، وخلق منها زوجها فما نكح سوى نفسه فمنه الصاحبة والولد, والأمر واحد في العدد" بل صرح ابن عربي بأن النبي –صلى الله عليه وسلم- هو الذي استوى على عرش الله حيث يقول بالنص "بدء الخلق هباء, وأول موجود فيه الحقيقة المحمدية الرحمانية الموصوفة بالاستواء على العرش الرحماني, وهو العرش الإلهي " (الفتوحات المكية 1/ 152)، وقد شرح هذه العبارات القاشاني شارح فصوص الحكم، وقرر أن النبي هو قبة الكون، وهو أول الوجود، وأنه جزء من نور الله, تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، ويربط ذلك بعقيدتهم في وحدة الوجود حديث جابر المفترى.
وهذا الكلام من أعظم الكفر وأظهره، بناه على خلط عظيم بين أنواع الوجود، وجود في الأعيان ووجود في الأذهان ووجود في اللسان ووجود في البنان وجود عيني وعلمي ولفظي ورسمي، فضلاً عن التفريق بين أنواع الوجود الواحد، وقد تتبعه شيخ الإسلام وبين خلطه وخطله في غير موضع، بل ذكر بأسانيده كلام بعض الأعلام من المتصوفة فيه, وتكفيرهم له, كأبي العباس الشاذلي تلميذ الشيخ أبي الحسن الشاذلي –رحمهم الله- وغيرهم.
قال شيخ الإسلام (الفتاوى 2/ 238): " وما يروى في هذا الباب من الأحاديث هو من هذا الجنس مثل كونه كان نوراً يسبح حول العرش، أو كوكباً يطلع في السماء، ونحو ذلك كما ذكره ابن حمويه صاحب ابن عربي، وذكر بعضه عمر الملا في وسيلة المتعبدين، وابن سبعين وأمثالهم ممن يروى الموضوعات المكذوبات باتفاق أهل المعرفة بالحديث، فإن هذا المعنى رووا فيه أحاديث كلها كذب حتى إنه اجتمع بي قديماً شيخ معظم من أصحاب ابن حمويه، يسميه أصحابه سلطان الأقطاب، وتفاوضنا في كتاب الفصوص وكان معظماً له ولصاحبه، حتى أبديت له بعض ما فيه فهاله ذلك، وأخذ يذكر مثل هذه الأحاديث فبينت له أن هذا كله كذب".
الشاهد لايقول بهذا الحديث الباطل إلاّ من يزعم ويدعي هذا الباطل، أو من تلقفه عنه وهو لايدري.
تنبيه:
زعم بعض المعاصرين أنه عثر على الجزء المفقود من مصنف عبدالرزاق ووجد فيه هذا الحديث وركب له سنداً.
وقد بين بعض الفضلاء أن ما يسمونه الجزء المفقود من مصنف عبدالرزاق الذي طبع مؤخراً منحول باطل النسبة له لايوجد ما يوثقه، بل هو من وضع بعض مبتدعة الهند، فلا يعبء به ولايتلفت إليه، وليعلم المسلم أنه إن اعتمد على مثل ما ذكروا لهدم ركن السنة وعمود الدين، فمن لك بملحد يجيء غداً فيضع جزاً فيقول هو مسند بقية، أو غيره من الفقود بغير بينة ولابرهان والله والمستعان.
¥