وقال عبدالرحمن بن أبي حاتِم الرازي [40]: سمعتُ أبي _ح يقول: «جاءني رجلٌ من جِلَّةِ أصحابِ الرأي - مِنْ أهلِ الفَهْمِ منهم - ومعه دَفْتَرٌ، فعرَضَهُ عليَّ، فقلتُ في بعضها: هذا حديثٌ خطأٌ؛ قد دخَلَ لصاحبِهِ حديثٌ في حديث، وقلتُ في بعضه: هذا حديثٌ باطلٌ، وقلتُ في بعضه: هذا حديثٌ منكر، وقلتُ في بعضه: هذا حديثٌ كَذِبٌ، وسائرُ ذلك أحاديثُ صحاحٌ، فقال: مِنْ أين عَلِمْتَ أنَّ هذا خطأٌ، وأنَّ هذا باطلٌ، وأن هذا كذبٌ؛ أخبرَكَ راوي هذا الكتابِ بأني غَلِطْتُ، وأنِّي كَذَبْتُ في حديثِ كذا؟! فقلتُ: لا، ما أدري هذا الجُزْءُ مِنْ روايةِ مَنْ هو؟ غيرَ أني أَعْلَمُ أنَّ هذا خطأٌ، وأنَّ هذا الحديثَ باطلٌ، وأنَّ هذا الحديثَ كَذِبٌ، فقال: تدَّعي الغيبَ؟ قال: قلتُ: ما هذا ادعاءُ الغَيْبِ، قال: فما الدليلُ على ما تقول؟ قلتُ: سَلْ عما قلتُ مَنْ يُحْسِنُ مِثْلَ ما أُحْسِنُ، فإنِ اتفقنا عَلِمْتَ أنَّا لم نُجَازِفْ، ولم نقله إلا بفَهْم، قال: مَنْ هو الذي يُحْسِنُ مِثْلَ ما تُحْسِن؟ قلتُ: أبو زُرْعة، قال: ويقولُ أبو زرعة مثلَ ما قلتَ؟ قلتُ: نعم، قال: هذا عَجَبٌ! فأخذ فكتَبَ في كاغَذٍ [41] ألفاظي في تلك الأحاديث، ثم رجَعَ إليَّ وقد كتَبَ ألفاظَ ما تكلَّم به أبو زرعة في تلك الأحاديث: فما قلتُ: إنه باطلٌ، قال أبو زرعة: هو كَذِبٌ، قلتُ: الكَذِبُ والباطلُ واحدٌ، وما قلتُ: إنه كذبٌ، قال أبو زرعة: هو باطلٌ، وما قلتُ: إنه منكرٌ، قال: هو منكرٌ، كما قلتُ، وما قلتُ: إنه صَحَاحٌ، قال أبو زرعة: هو صَحَاحٌ [42]. فقال: ما أعجَبَ هذا؛ تَتَّفِقان مِنْ غيرِ مواطأةٍ فيما بينكما!! فقلتُ: فقد بان لك أنَّا لم نُجازف، وإنما قلناه بِعِلْمٍ ومعرفةٍ قد أُوتِينَا، والدليلُ على صحَّة ما نقوله: أنَّ دينارًا نَبَهْرَجًا [43] يُحمَلُ إلى الناقدِ، فيقول: هذا دينار نَبَهْرَجٌ، ويقول لدينار: هو جيِّدٌ، فإنْ قيل له: مِنْ أين قلتَ: إنَّ هذا نَبَهْرَجٌ، هل كنتَ حاضرًا حين بُهْرِجَ هذا الدينارُ؟ قال: لا، فإنْ قيل له: فأَخْبَرَكَ الرجلُ الذي بَهْرَجَهُ: إنِّي بَهْرَجْتُ هذا الدينارَ؟ قال: لا، قيل: فَمِنْ أين قلتَ: إنَّ هذا نَبَهْرَجٌ؟ قال: عِلْمًا رُزِقْتُ. وكذلك نحن رُزِقْنَا معرفةَ ذلك.
قلتُ له: فتَحْمِلُ فَصَّ ياقوتٍ إلى واحد من البُصَراء من الجَوهَرِيِّين، فيقولُ: هذا زُجَاجٌ، ويقولُ لمثله: هذا ياقوتٌ. فإنْ قيل له: مِنْ أين عَلِمْتَ أنَّ هذا زجاجٌ، وأنَّ هذا ياقوتٌ؟ هل حَضَرْتَ الموضعَ الذي صُنِعَ فيه هذا الزجاجُ؟ قال: لا، قيل له: فهل أعلمَكَ الذي صاغَهُ بأنه صاغ هذا زجاجًا؟ قال: لا، قال: فمِنْ أين علمتَ؟ قال: هذا عِلْمٌ رُزِقْتُ، وكذلك نحن رُزِقْنَا علمًا لا يتهيَّأُ لنا أن نُخْبِرَكَ كيف علمنا بأنَّ هذا الحديثَ كذب، وهذا حديثٌ منكر، إلا بما نَعْرِفُهُ».
ثم قال ابن أبي حاتِم: «تُعْرَفُ جَودةُ الدينار بالقياس إلى غيره؛ فإنْ تخلَّف عنه في الحُمْرَةِ والصَّفَاءِ، عُلِمَ أنه مَغْشوش. ويُعْلَمُ جنسُ الجَوْهَرِ بالقياس إلى غيره؛ فإنْ خالفه بالماء والصَّلابة، عُلِمَ أنه زجاج. ويُقاس صِحَّةُ الحديثِ بعدالة ناقليه، وأنْ يكونَ كلامًا يَصْلُحُ أنْ يكونَ مِنْ كلامِ النُّبُوَّةِ. ويُعْلَمُ سقمُهُ وإنكاره بتفرُّدِ مَنْ لم تَصِحَّ عدالتُهُ بروايته، والله أعلم».اهـ.
وذكر أبو عبدالله الحاكم في "معرفة علوم الحديث" [44]: معرفةَ علل الحديث، فقال: «وهو عِلْمٌ برأسه، غيرُ الصحيح والسقيم والجَرْحِ والتعديل ... وإنما يعلَّل الحديثُ مِنْ أوجُهٍ ليس للجَرْح فيها مَدْخَل؛ فإنَّ حديثَ المجروح ساقطٌ واهٍ، وعلَّةُ الحديثِ تَكثُرُ في أحاديث الثقات؛ أن يحدِّثوا بحديثٍ له علَّة، فيَخْفَى عليهم علمُهُ، فيصيرُ الحديثُ معلولاً، والحُجَّةُ فيه عندنا: الحفظُ والفَهْم والمعرفةُ لا غير».
¥