وقال الخطيبُ البغدادي [22]: «فمِنَ الأحاديثِ ما تَخْفَى عِلَّتُه فلا يوقَفُ عليها إلا بعد النظرِ الشديد، ومُضِيِّ الزمانِ البعيد».

وقال صالحُ بن محمد البغدادي - المعروفُ بصالحِ جَزَرة -: سمعتُ عليَّ بن المَدِيني يقول: «رُبَّمَا أدركتُ عِلَّةَ حديثٍ بعد أربعين سنةً» [23].

وقال الربيع بن خُثَيْم: «إنَّ مِنَ الحديثِ حديثًا له ضَوْءٌ كضوء النهار تعرفُهُ، وإنَّ مِنَ الحديثِ حديثًا له ظُلمةٌ كظُلْمة الليلِ تُنْكِرُهُ» [24].

وقال الشافعي [25]: «ولا يُستدلُّ على أكثرِ صِدْقِ الحديثِ وكَذِبِهِ إلا بصدقِ المُخْبِرِ وكذبه، إلا في الخاصِّ القليلِ من الحديث».

وأوضَحَ البيهقيُّ عبارةَ الشافعيِّ هذه بقوله [26]: «وهذا الذي استثناه الشافعيُّ لا يقف عليه إلا الحُذَّاقُ مِنْ أهل الحِفْظ؛ فقد يَزِلُّ الصدوقُ فيما يكتبُهُ، فيَدْخُلُ له حديثٌ في حديث، فيصيرُ حديثٌ رُوِيَ بإسناد ضعيفٍ مُرَكَّبًا على إسنادٍ صحيحٍ. وقد يَزِلُّ القَلَمُ، ويُخْطئ السمع، ويَخُونُ الحِفْظ؛ فيروي الشاذَّ من الحديث عن غير قَصْدٍ، فَيَعْرِفُهُ أهلُ الصَّنْعة الذين قيَّضَهُمُ اللهُ تعالى لحفظِ سُنَنِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم على عباده؛ بِكَثْرة سماعه، وطُولِ مُجالستِهِ أهلَ العِلْمِ به ومُذاكَرتِهِ إيَّاهم». اهـ.

ولذا كان أهلُ الحديث لا يُسلِّمون بكل ما يُرْوَى وإنْ كان صحيحَ السَّنَدِ، حتى يَعْرِضوه على أهل الاختصاص:

قال الأعمش: «كان إبراهيمُ [27] صَيْرَفِيَّ الحديث، فكنتُ إذا سمعتُ الحديثَ مِنْ بعضِ أصحابنا، أتيتُهُ فعرضتُهُ عليه» [28].

وقال جريرُ بن عبدالحميد: «كنتُ إذا سمعتُ الحديثَ جِئْتُ به إلى المغيرة، فعرضْتُهُ عليه؛ فما قال لي: أَلْقِهِ، أَلْقَيْتُهُ» [29].

وقال قَبِيصة بن عُقْبة: «رأيتُ زائدةَ يَعْرِضُ كُتُبَهُ على سُفْيان الثَّوْري، ثم التفَتَ إلى رجل في المَجْلِس فقال: ما لك لا تَعْرِضُ كتبَك على الجَهابِذَةِ كما نَعْرِض؟!» [30].

وقال زائدة: «كنا نأتي الأعمشَ، فيحدِّثنا، فَيُكْثِرُ، ونأتي سُفْيانَ الثوريَّ فنذكُرُ تلك الأحاديثَ له، فيقولُ: ليس هذا مِنْ حديثِ الأعمش. فنقول: هو حدَّثنا به الساعةَ! فيقول: اذهَبُوا فقولوا له إنْ شئتم. فنأتي الأعمشَ، فَنُخْبِره بذلك، فيقول: صَدَقَ سفيان؛ ليس هذا مِنْ حديثنا» [31].

وقال الأوزاعيُّ: «إنْ كنا لَنَسْمَعُ الحديثَ فَنَعْرِضُهُ على أصحابنا كما نَعْرِضُ الدرهمَ الزائفَ على الصَّيارفةِ؛ فما عَرَفُوا أَخَذْنا، وما أَنْكَروا تَرَكْنا» [32].

وقال عمرو بن قيس: «ينبغي لصاحبِ الحديثِ أنْ يكونَ مِثْلَ الصيرفيِّ الذي يَنْقُدُ الدرهمَ الزائفَ والبَهْرَجَ، وكذا الحديثُ» [33].

وروى أبو حاتِمٍ [34]، عن محمود بن إبراهيم ابن سُمَيْع؛ قال: سمعتُ أحمد بن صالح يقول: معرفةُ الحديثِ بمنزلةِ معرفة الذَّهَبِ والشَّبَه؛ فإنَّ الجَوْهَرَ إنما يَعْرِفُهُ أهلُهُ، وليس للبصير فيه حُجَّةٌ إذا قيل له: كيف قلتَ: «إن هذا بائنٌ»؟ يعني: الجيِّدَ أو الرديءَ. اهـ.

وقال محمد بن عمرو بن العَلاَء الجُرْجاني: حدَّثنا يحيى بن مَعِين؛ قال: «لولا الجَهابذةُ لَكَثُرَتِ السَّتُّوقَةُ [35] والزُّيوفُ في روايةِ الشريعة، فمتى أحبَبْتَ فهَلُمَّ ما سَمِعْتَ حتى أَعْزِلَ لك منه نقدَ بيت المال، أَمَا تَحْفَظُ قولَ شُرَيْح: «إنَّ للأثرِ جَهابذةً كجَهابِذَة الوَرِق»؟! [36].

وقال محمد بن صالح الكِيلِيني [37]: سمعتُ أبا زرعة وقال له رجلٌ: ما الحُجَّةُ في تعليلكم الحديث؟ قال: «الحُجَّةُ أَنْ تسألَني عن حديثٍ له عِلَّةٌ، فأذكُرَ علَّته، ثم تَقْصِدَ ابنَ وارَة - يعني: محمد بن مسلم بن وارَة - وتسألَهُ عنه، ولا تُخْبِرُهُ بأنك قد سألتَني عنه، فيذكُرَ علَّته، ثم تَقْصِدَ أبا حاتِم فيعلِّله، ثم تُمَيِّزَ كلامَ كلٍّ منَّا على ذلك الحديث؛ فإنْ وجدتَّ بيننا خلافًا في علَّته فاعلَمْ أنَّ كلًّا منَّا تكلَّم على مُراده، وإنْ وجدتَّ الكلمةَ متفقةً فاعلَمْ حقيقةَ هذا العلم». قال: ففعَلَ الرجلُ، فاتفقَتْ كلمتُهم عليه، فقال: أشهَدُ أنَّ هذا العلمَ إِلْهَام [38].

وقال أبو حاتِم الرازي: «مَثَلُ معرفةِ الحديثِ كمَثَلِ فَصٍّ ثَمَنُهُ مئةُ دينار، وآخَرَ مِثْلِهِ على لونه ثَمَنُهُ عَشَرَةُ دراهم» [39].

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015