وقد كان الصحابة – رضي الله عنهم – يتقارؤون سورة العصر عند كل لقاء؛ بيانا لقيمة الزمن، وحفظا للأوقات، وحثا على عمارتها بالصالحات، وتربية لملكة مراعاتها؛ لأن الوقت أجل غنيمة تنتهز فيها الفرص، وأعظم تحصيل عند العقلاء والعلماء بالأخص، وهو رأس مال الإنسان، وبقدر العناية به أو تضييعه يحصل الربح أو الخسران، وهو أنفس ما عني المرء بحفظه، وأسهل ما يضيعه لجهالته وضعفه، وهو كالسيف إن لم تقطعه قطعك، وإن لم تحافظ عليه ذهب ولم يبق معك، ويا ليته يذهب ولا يترك أثرا، بل ما فات منه لا يستدرك ولا شيء أعز منه قدرا، ففيه الأنفاس تعد وتحسب، وبمرور جزء منه تدنو المنايا من النفوس وتقرب، وقد يفرح الغمر بذهابه، ولا يدري أن في إذهابه ذهابا به، فضياع الوقت وفوته هو هلاك الإنسان وموته.

فعلى العاقل أن يكون ابن وقته، وأن يشغل نفسه في كل وقت بما هو أولى لها، وأنفع في معادها ومعاشها، وأن يقوم بالعمل الحاضر؛ ليكون عونا له على العمل الآخر، ولا يؤخر عمل الساعة الأولى إلى الساعة الثانية، ولا عمل اليوم إلى الغد، ولينظم أعماله، ويترك الفضول في كل شيء، ويقلل من الأكل، والنوم، ومخالطة الناس، وليغتنم حياته قبل موته، وصحته قبل سقمه، وفراغه قبل شغله، وشبابه قبل هرمه، وغناه قبل فقره. وليحرص على أن لا يغبن خاصة حال صحته وفراغه؛ فإن الدنيا مزرعة الآخرة، وكل الناس يغدو فبائع نفسه، فمعتقها أو موبقها، قال الله تعالى:? وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ? [الفرقان: 62].

عن ابن عباس– رضي الله عنه - قوله:? وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة ?يقول: «من فاته شيء من الليل أن يعمله أدركه بالنهار، أو من النهار أدركه بالليل» ([15]).

2/ الدعوة إلى عمارة الأوقات بالإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر:

قال الطبري– رحمه الله-: «وقوله? إن الإنسان لفي خسر ? يقول: إن ابن آدم لفي هلَكة ونقصان» ([16]).

وعن مجاهد- رحمه الله -: «? إن الإنسان لفي خسر ? إلا من آمن» ([17]).

وقال الطبري – رحمه الله - أيضا: «? إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات? يقول: إلا الذين صدّقوا الله ووحَّدوه، وأقرّوا له بالوحدانية والطاعة، وعملوا الصالحات، وأدّوا ما لزمهم من فرائضه، واجتنبوا ما نهاهم عنه من معاصيه، واستثنى الذين آمنوا من الإنسان، لأن الإنسان بمعنى الجمع، لا بمعنى الواحد. وقوله: ? وتواصوا بالحق?يقول: وأوصى بعضهم بعضا بلزوم العمل بما أنزل الله في كتابه من أمره، واجتناب ما نهى عنه فيه» ([18]).

وعن قتادة–رحمه الله -: «? وتواصوا بالحق?والحق: كتاب الله» ([19]).

وقال الطبري– رحمه الله -: «وقوله: ? وتواصوا بالصبر?يقول: وأوصى بعضهم بعضا بالصبر على العمل بطاعة الله» ([20]).

وعن قتادة–رحمه الله-:? وتواصوا بالصبر?قال: «الصبر: طاعة الله» ([21]).

وقال ابن الجوزي-رحمه الله-: «قال أهل المعاني: الخسر: هلاك رأس المال أو نقصه. فالإنسان إذا لم يستعمل نفسه فيما يوجب له الربح الدائم، فهو في خسران، لأنه عمل في إهلاك نفسه، وهما أكبر رأس ماله، «? إلا الذين ءامنوا ?أي: صدَّقوا الله ورسوله، وعملوا بالطاعة. ? وتواصوا بالحق?أي: بالتوحيد، والقرآن، واتباع الرسول. ? وتواصوا بالصبر?على طاعة الله، والقيام بشريعته» ([22]).

وعن ابن عباس – رضي الله- قال: قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ» ([23]).

قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله-: «وقال الطيبي: ضرب النبي – صلى الله عليه وسلم - للمكلف مثلا بالتاجر الذي له رأس مال، فهو يبتغي الربح مع سلامة رأس المال، فطريقه في ذلك أن يتحرى فيمن يعامله ويلزم الصدق والحذق لئلا يغبن، فالصحة والفراغ رأس المال، وينبغي له أن يعامل الله بالإيمان، ومجاهدة النفس وعدو الدين؛ ليربح خيري الدنيا والآخرة، وقريب منه قول الله تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ? الآيات. وعليه أن يجتنب مطاوعة النفس ومعاملة الشيطان لئلا يضيع رأس ماله مع الربح. وقوله في الحديث: "مغبون فيهما كثير من الناس" كقوله تعالى: ? قَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ? [سبأ: 13]، فالكثير في الحديث في مقابلة

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015