هاشم، عن حميد، عن أنس - رضي الله عنه - قال: استشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس في الأسارى يوم بدر، فقال: " إن الله قد أمكنكم منهم " فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم. فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " يا أيها الناس إن الله قد أمكنكم منهم وإنما هم إخوانكم بالأمس " فقام عمر فقال: يا رسول الله، اضرب أعناقهم. فأعرض عنه النبي صلى لله عليه وسلم، فقال للناس مثل ذلك. فقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال: يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء. قال: فذهب عن وجه رسول الله - صلى لله عليه وسلم - ما كان فيه من الغم، فعفا عنهم وقبل منهم الفداء. قال: وأنزل الله عز وجل: ? لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ? .. وقال الأعمش، عن عمر بن مرة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله - صلى لله عليه وسلم–:" ما تقولون في الأسارى؟ " فقال أبو بكر: يا رسول الله، قومك وأهلك، استبقهم واستتبهم لعل الله أن يتوب عليهم .. وقال عمر: يا رسول الله، كذبوك وأخرجوك فقدمهم فاضرب أعناقهم .. وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله، أنت في واد كثير الحطب. فأضرم الوادي عليهم ناراً ثم ألقهم فيه! فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يرد عليهم شيئاً. ثم قام فدخل. فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر. وقال ناس: يأخذ بقول عمر. وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة. ثم خرج عليهم رسول الله - صلى لله عليه وسلم - فقال: " إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام قال: ? فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ? وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى عليه السلام: قال: ? إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ?. وإن مثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام قال: ? ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ?. وإن مثلك يا عمر كمثل نوح عليه السلام قال: ? رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً ?. أنتم عالة فلا ينفكن أحد منهم إلا بفداء أو ضربة عنق " قال ابن مسعود: قلت: يا رسول الله، إلا سهيل ابن بيضاء فإنه يذكر الإسلام! فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع عليّ حجارة من السماء مني في ذلك اليوم، حتى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم " إلا سهيل بن بيضاء " فأنزل الله عز وجل: ? ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ... ? إلى آخر الآية ... (رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي معاوية عن الأعمش به، والحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه). والإثخان المقصود: التقتيل حتى تضعف شوكة المشركين وتشتد شوكة المسلمين، وهذا ما كان ينبغي قبل أن يكون للنبي والمسلمين أسرى يستبقونهم ويطلقونهم بالفدية كما حدث في بدر. فعاتب الله المسلمين فيه. لقد كانت غزوة بدر هي المعركة الأولى بين المسلمين والمشركين. وكان المسلمون ما يزالون قلة والمشركون ما يزالون كثرة. وكان نقص عدد المحاربين من المشركين مما يكسر شوكتهم ويذل كبرياءهم ويعجزهم عن معاودة الكرة على المسلمين. وكان هذا هدفاً كبيراً لا يعدله المال الذي يأخذونه مهما يكونوا فقراء. وكان هنالك معنى آخر يراد تقريره في النفوس وتثبيته في القلوب .. ذلك هو المعنى الكبير الذي عبر عنه عمر رضي الله عنه في صرامة ونصاعة وهو يقول: " وحتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين " .. لهذين السببين البارزين نحسب - والله أعلم - أن الله - سبحانه - كره للمسلمين أن يأخذوا الأسرى يوم بدر وأن يفادوهم بمال. ولهذه الظروف الواقعية التي كان يواجهها النص - وهو يواجهها كلما تكررت هذه الظروف - قال الله تعالى: ? ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض? .. ولذلك عرّض القرآن بالمسلمين الذين قبلوا الفداء في أسرى المعركة الأولى: ? تريدون عرض الدنيا? .. أي: فأخذتموهم أسرى بدل أن تقتلوهم؛ وقبلتم فيهم الفداء وأطلقتموهم! ? والله يريد الآخرة ? .. والمسلمون عليهم أن يريدوا ما يريد الله، فهو خير وأبقى، والآخرة تقتضي التجرد من إرادة عرض الدنيا! ? والله عزيز حكيم ? .. قدر لكم النصر، وأقدركم عليه، لحكمة يريدها من قطع دابر الكافرين ?ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون? ?لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم? .. ولقد سبق قضاء الله بأن يغفر لأهل بدر ما يفعلون؛ فوقاهم سبق قضائه فيهم ما كان يستحقه أخذهم الفداء من العذاب العظيم! ثم زادهم الله فضلاً ومنة؛ فجعل غنائم الحرب حلالاً لهم - ومنها هذه الفدية التي عوتبوا فيها - وكانت محرمة في الديانات قبلهم على أتباع الرسل - مذكراً إياهم بتقوى الله، وهو يذكر لهم رحمته ومغفرته، لتتوازن مشاعرهم تجاه ربهم، فلا تغرهم المغفرة والرحمة، ولا تنسيهم التقوى والتحرج والمخافة: ?فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً، واتقوا الله، إن الله غفور رحيم ? .. » (في ظلال القرآن - سيد قطب).
¥