وفي غايته بالحق لا يتلبس به الباطل. هذه هي اللمسة الأولى، التي تمس قلوب " أولي الألباب " من التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار بشعور العبادة والذكر والاتصال. وهي اللمسة التي تطبع حسهم بالحق الأصيل في تصميم هذا الكون، فتطلق ألسنتهم بتسبيح الله وتنزيهه عن أن يخلق هذا الكون باطلاً:?ربنا ما خلقت هذا باطلاً. سبحانك! ? .. ثم تتوالى الحركات النفسية، تجاه لمسات الكون وإيحاءاته ... ? فقنا عذاب النار. ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته. وما للظالمين من أنصار ... ? .. فما العلاقة الوجدانية، بين إدراك ما في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار من حق، وبين هذه الارتعاشة المنطلقة بالدعاء الخائف الواجف من النار؟ إن إدراك الحق الذي في تصميم هذا الكون وفي ظواهره، معناه عند - أولي الألباب - أن هناك تقديراً وتدبيراً، وأن هناك حكمة وغاية، وأن هناك حقاً وعدلاً وراء حياة الناس في هذا الكوكب. ولا بد إذن من حساب ومن جزاء على ما يقدم الناس من أعمال. ولا بد إذن من دار غير هذه الدار يتحقق فيها الحق والعدل في الجزاء. فهي سلسلة من منطق الفطرة والبداهة، تتداعى حلقاتها في حسهم على هذا النحو السريع. لذلك تقفز إلى خيالهم صورة النار، فيكون الدعاء إلى الله أن يقيهم منها، هو الخاطر الأول، المصاحب لإدراك الحق الكامن في هذا الوجود .. وهي لفتة عجيبة إلى تداعي المشاعر عند ذوي البصائر .. ثم تنطلق ألسنتهم بذلك الدعاء الطويل، الخاشع الواجف الراجف المنيب، ذي النغم العذب، والإيقاع المنساب، والحرارة البادية في المقاطع والأنغام! ولا بد من وقفة أمام الرجفة الأولى وهم يتجهون إلى ربهم ليقيهم عذاب النار .. لا بد من وقفة أمام قولهم: ? ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته ? .. ? وما للظالمين من أنصار ? .. إنها تشي بأن خوفهم من النار، إنما هو خوف - قبل كل شيء - من الخزي الذي يصيب أهل النار .. وهذه الرجفة التي تصيبهم هي أولاً رجفة الحياء من الخزي الذي ينال أهل النار. فهي ارتجافة باعثها الأكبر الحياء من الله، فهم أشد حساسية به من لذع النار! كما أنها تشي بشعور القوي بأنه لا ناصر من الله، وأن الظالمين ما لهم من أنصار .. ثم نمضي مع الدعاء الخاشع الطويل: ? ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم. فآمنا. ربنا فاغفر لنا ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ? .. فهي قلوب مفتوحة؛ ما إن تتلقى حتى تستجيب. وحتى تستيقظ فيها الحساسية الشديدة، فتبحث أول ما تبحث عن تقصيرها وذنوبها ومعصيتها، فتتجه إلى ربها تطلب مغفرة الذنوب وتكفير السيئات، والوفاة مع الأبرار. ويتسق ظل هذه الفقرة في الدعاء مع ظلال السورة كلها، في الاتجاه إلى الاستغفار والتطهر من الذنب والمعصية، في المعركة الشاملة مع شهوات النفس ومع الذنب والخطيئة. المعركة التي يتوقف على الانتصار فيها ابتداء كل انتصار في معارك الميدان، مع أعداء الله وأعداء الإيمان .. والسورة كلها وحدة متكاملة متناسقة الإيقاعات والظلال. وختام هذا الدعاء. توجه ورجاء. واعتماد واستمداد من الثقة بوفاء الله بالميعاد: ? ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك، ولا تخزنا يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد ? .. فهو استنجاز لوعد الله، الذي بلغته الرسل، وثقة بوعد الله الذي لا يخلف الميعاد، ورجاء في الإعفاء من الخزي يوم القيامة، يتصل بالرجفة الأولى في هذا الدعاء، ويدل على شدة الخوف من هذا الخزي، وشدة تذكره واستحضاره في مطلع الدعاء وفي ختامه. مما يشي بحساسية هذه القلوب ورقتها وشفافيتها وتقواها وحيائها من الله. والدعاء في مجموعه يمثل الاستجابة الصادقة العميقة، لإيحاء هذا الكون وإيقاع الحق الكامن فيه، في القلوب السليمة المفتوحة .. ولا بد من وقفة أخرى أمام هذا الدعاء، من جانب الجمال الفني والتناسق في الأداء .. إن كل سورة من سور القرآن تغلب فيها قافية معينة لآياتها - والقوافي في القرآن غيرها في الشعر، فهي ليست حرفاً متحداً، ولكنها إيقاع متشابه - مثل " بصير. حكيم. مبين. مريب " .. " الألباب، الأبصار. النار. قرار " .. " خفياً. شقياً. شرقياً. شيئاً " ... الخ. وتغلب القافية الأولى في مواضع التقرير. والثانية في مواضع الدعاء. والثالثة في مواضع الحكاية. وسورة آل عمران تغلب فيها القافية الأولى.». (في ظلال القرآن – سيد قطب)
وعلق أحد الظرفاء بقول جميل في الموضوع قائلا: "هذه الآيات التي أبكت نبينا صلى الله عليه وسلم أيها الأحبة وأقضت مضجعه ولم تجعله يهنأ بالنوم في ليلته تلك فكان يقرأها في صلاته ويبكى قائماً وساجداً وبكى وهو مضطجعاً، نعم إنها لآيات عظيمة تقشعر منها الأبدان وتهتز لها القلوب، قلوب أولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض وليست كل القلوب كذلك! فهلا تفكرنا في ملكوت الله؟ وهلا أكثرنا من ذكر الله؟ واستشعرنا عظمته سبحانه وتعالى؟ لو فعلنا ذلك لبكينا من خشية الله عند سماع أو قراءة هذه الآيات ولكن لله المشتكى من قسوة في قلوبنا وغفلة في أذهاننا .. اللهم أنر قلوبنا بنور القرآن، اللهم إنا نسألك قلباً خاشعا ولساناً ذاكرا وقلباً خاشعاً وعلماً نافعاً وعملاً صالحاً.".
¥