من نظام لا بد من عقل يدبر؛ ووراء ما فيه من إحكام لا بد من ناموس لا يتخلف .. وأن هذا كله لا يمكن أن يكون خداعاً ولا يمكن أن يكون جزافاً، ولا يمكن أن يكون باطلاً. ولا ينقص من اهتزازنا للمشهد الكوني الرائع أن نعرف أن الليل والنهار، ظاهرتان ناشئتان من دورة الأرض حول نفسها أمام الشمس. ولا أن تناسق السماوات والأرض مرتكز إلى " الجاذبية " أو غير الجاذبية. هذه فروض تصح أو لا تصح، وهي في كلتا الحالتين لا تقدم ولا تؤخر في استقبال هذه العجيبة الكونية، واستقبال النواميس الهائلة الدقيقة التي تحكمها وتحفظها .. وهذه النواميس - أياً كان اسمها عند الباحثين من بني الإنسان - هي آية القدرة، وآية الحق، في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار. والسياق القرآني هنا يصور خطوات الحركة النفسية التي ينشئها استقبال مشهد السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار في مشاعر أولي الألباب تصويراً دقيقاً، وهو في الوقت ذاته تصوير إيحائي، يلفت القلوب إلى المنهج الصحيح، في التعامل مع الكون، وفي التخاطب معه بلغته، والتجاوب مع فطرته وحقيقته، والانطباع بإشاراته وإيحاءاته. ويجعل من كتاب الكون المفتوح كتاب " معرفة " للإنسان المؤمن الموصول بالله، وبما تبدعه يد الله. وإنه يقرن ابتداء بين توجه القلب إلى ذكر الله وعبادته: ? قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ? .. وبين التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار .. فيسلك هذا التفكر مسلك العبادة، ويجعله جانباً من مشهد الذكر .. فيوحي بهذا الجمع بين الحركتين بحقيقتين هامتين. الحقيقة الأولى: أن التفكر في خلق الله، والتدبر في كتاب الكون المفتوح، وتتبع يد الله المبدعة، وهي تحرك هذا الكون، وتقلب صفحات هذا الكتاب .. هو عبادة لله من صميم العبادة، وذكر لله من صميم الذكر. ولو اتصلت العلوم الكونية، التي تبحث في تصميم الكون، وفي نواميسه وسننه، وفي قواه ومدخراته، وفي أسراره وطاقاته .. لو اتصلت هذه العلوم بتذكر خالق هذا الكون وذكره، والشعور بجلاله وفضله. لتحولت من فورها إلى عبادة لخالق هذا الكون وصلاة. ولاستقامت الحياة - بهذه العلوم - واتجهت إلى الله. ولكن الاتجاه المادي الكافر، يقطع ما بين الكون وخالقه، ويقطع ما بين العلوم الكونية والحقيقة الأزلية الأبدية؛ ومن هنا يتحول العلم - أجمل هبة من الله للإنسان - لعنة تطارد الإنسان، وتحيل حياته إلى جحيم منكرة، وإلى حياة قلقة مهددة، وإلى خواء روحي يطارد الإنسان كالمارد الجبار!

والحقيقة الثانية: أن آيات الله في الكون، لا تتجلى على حقيقتها الموحية، إلا للقلوب الذاكرة العابدة. وأن هؤلاء الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم - وهم يتفكرون في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار - هم الذين تتفتح لبصائرهم الحقائق الكبرى المنطوية في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار، وهم الذين يتصلون من ورائها بالمنهج الإلهي الموصل إلى النجاة والخير والصلاح. فأما الذين يكتفون بظاهر من الحياة الدنيا، ويصلون إلى أسرار بعض القوى الكونية - بدون هذا الاتصال - فهم يدمرون الحياة ويدمرون أنفسهم بما يصلون إليه من هذه الأسرار، ويحولون حياتهم إلى جحيم نكد، وإلى قلق خانق. ثم ينتهون إلى غضب الله وعذابه في نهاية المطاف! فهما أمران متلازمان، تعرضهما هذه الصورة التي يرسمها القرآن لأولي الألباب في لحظة الاستقبال والاستجابة والاتصال. إنها لحظة تمثل صفاء القلب، وشفافية الروح، وتفتح الإدراك، واستعداده للتلقي. كما تمثل الاستجابة والتأثر والانطباع .. إنها لحظة العبادة .. وهي بهذا الوصف لحظة اتصال، ولحظة استقبال. فلا عجب أن يكون الاستعداد فيها لإدراك الآيات الكونية أكبر؛ وأن يكون مجرد التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار، ملهما للحقيقة الكامنة فيها، ولإدراك أنها لم تخلق عبثاً ولا باطلاً. ومن ثم تكون الحصيلة المباشرة، للخطة الواصلة.?ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك! ? .. ما خلقت هذا الكون ليكون باطلاً. ولكن ليكون حقاً. الحق قوامه. والحق قانونه. والحق أصيل فيه. إن لهذا الكون حقيقة، فهو ليس " عدماً " كما تقول بعض الفلسفات! وهو يسير وفق ناموس، فليس متروكاً للفوضى. وهو يمضي لغاية، فليس متروكاً للمصادفة. وهو محكوم في وجوده وفي حركته

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015