دخلت "هلاّ" في أقواله ـ كرّم الله وجهه ـ على الفعل الماضي لفظاً وتقديراً في قوله: (هَلاّ احتججتم، هلاّ أُلقي، هلاّ خشينا، هلا بادروا، هلا كانت) حيت إنّ الفعل مذكور بعدها مباشرة، وهي بذلك تدل على التوبيخ، لأنه يكون على فعل وسلوك مضى ووقع.
فـ (هلاّ) فيما سبق أداة توبيخ ولوم، على عدم الاحتجاج عليهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وصى بالإحسان إلى محسنهم، والتجاوز عن مسيئهم وهو تحضيض على الاحتجاج. ولذلك استعمل معها الفعل الماضي للدلالة على التوبيخ.
وكذلك قوله: (هلاّ ألقى) فهو توبيخ لهما، لأن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة فهو يوبخ من معه على حبهم للدنيا والركون إليها، وما فيها من ذهب وكنوز.
وكذلك قوله: (هلا خشينا) فهو ينجهم على عدم خشيتهم من الفتنة، لأنها تدمر كل شيء وتأكل الأخضر واليابس، قال تعالى: ? وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ? (3).
وكذلك قوله: (هلا بادروا، هلاّ كنت) فهو يوبخهم على عدم مبادرتهم يوم العشيرة ويوم بدر.
ومن خلال ذلك نرى أن "هلاّ" تأتي للتوبيخ إذا دخلت على الفعل الماضي. وقد ورد نحو ذلك في كلام العرب ومنه قول عمرو بن كلثوم [الكامل]:
ـــــــــــــــــ
(1) مستدرك نهج البلاغة، الهادي كاشف الغطاء، ص72.
(2) المرجع نفسه، 73.
(3) البقرة: 193.
ــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ
هَلا عَطَفْتَ عَلَى أَخِيْكَ إِذَا دَعَا بِالثكْلِ ويْلَ أَبِيْكَ يَا ابْنَ أَبِي شًمِر (1).
هذا توبيخ ولوم لعدم عطفه على أخيه بقوله: (هلا عطفت)، والشطر الثاني من البيت يوضح ذلك. وقول عروة بن الورد [البسيط]:
هَلاّ سَأَلْتَ بَنِي غَيْلانَ كُلّهُم عِنْدَ السّنِيْنِ إذَا مَا هَبَّتِ الرِّيْحُ (2).
ومن خلال البحت والتدقيق لم تردْ "هلا" داخلة على الفعل المضارع في كتاب نهج البلاغة، والراجح في ذلك أنه قد وردت بقلَّة في خطبه ـ كرم الله وجهه ـ وأنَّ معرض الحديث فيها كان للتوبيخ واللوم، وما ورد في هذا الأسلوب استعماله (أَلاَ) التي سوف نتحدث عنها.
أَلاَ:
وهي حرف من الحروف المهملة ولها مواضع:
أحدها: أن يكون تنبيها وافتتاحا للكلام، نحو قوله تعالى: ? أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ? (3).
والثاني: أن يكون عرضاً نحو قولك: ألا تنزل فتصيب خيراً.
والثالث: أن يكون حرف تحضيض (4)، نحو قوله تعالى: ?أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ ? (5). والفرق بينها وبين العرض، هو أن (ألا) التي هي للعرض تفيد الطلب برفق ولين، والتي للتحضيض تكون أشدُّ توكيداُ من العرض (6).
وقد وضعها ابن هشام في باب واحد (العرض والتحضيض) (7).
وقد جاءت (ألا) التي للعرض والتحضيض في خطبه كرم الله وجهه في
ـــــــــــــــــ
(1) ديوان عمرو بن كثوم: جمع وتحقيق أميل يعقوب، دار الكتاب العربي، ط1، بيروت 1991 ص98.
(2) ديوانا عروة بن الورد والسموأل، دار صادر، بيروت، (د. ط. ت)، ص25.
(3) هود: 18.
(4) حروف المعاني، الرماني، ص113، وينظر مغني اللبيب، ص97.
(5) التوبة: 13.
(6) الجني الداني في حروف المعاني، المرادي، ص382.
(7) مغني اللبيب، ابن هشام، ص97.
ــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــ
قوله: (أَلا لا يَعْدِلَنَّ أحدُكُم عَن القَرَابَةِ يَرَى بها الخصاصة أن يَسُدَّها بالذي لايزيده إنْ أَمْسَكَهُ ولا ينقصه إن أهلكه) (1).
وقوله: (ألا تَرْبَعُ أَيُّهَا الإنسانُ على ظَلَعِكَ) (2).
وقوله: (أَتَغْلِبُكُمْ نِسَاؤُكُمْ على ما أسمعُ ألا تَنْهَوْنَهُنّ عَنْ هَذضا الرَّنِيْنِ) (3).
وردت "أَلاَ" في أقواله ـ كرّم الله وجهه ـ للتحضيض، وقد وليها فعل مضارع (ألا لا يعدلنَّ، ألا تربَعْ، ألا تنهونهنَّ) فهو ـ كرم الله وجهه ـ يحض على عدم مقاطعة الأقارب، وعلى المحافظة على صلة الرحم، وعدم قطعها بقوله: (ألا لا يعدلنَّ). وكذلك يحض الإنسان على الرفق أي: ألا ترفق بنفسك وتكفها، ولا تحمل عليها مالا تطيقه (4).
ويحثهم أيضاً على السيطرة على نسائهم وألا يسيطرنْ عليهم بالبكاء الذي يأتينه قهراً.
وهذه الأفعال التي وليت (ألا) دالة على الاستقبال مذكورة ملفوظ بها. ومنه قوله تعالى: {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ} (5).
قال الزجاج في هذه الآية: ((هذا على وجه التوبيخ، ومعناه الحضُّ على قتالهم)) (6). أي هو حث على قتال هؤلاء القوم من الكافرين الذين نكثوا أيمانهم أي: نقضوا عهودهم مع المسلمين.
وقد ورد هذا الأسلوب في كلام العرب ومنه قول الخنساء [المتقارب]:
ألا تَبْكِيَانِ الجَرِيءَ الجَمِيلَ ألا تَبكِيانِ الفَتَى السَّيدَا (7).
ـــــــــــــــــ
(1) شرح نهج البلاغة، أبو الحديد، 1/ 254. الخصاصة: هي الفقر والحاجة الشديدة وهي مصدر خص الرجل، من باب علم، قال تعالى: ?يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ?. فأمير المؤمنين ينهى عن إهمال القريب إذا كان فقيرا، ويحث على سد حاجته بالمال. ينظر اللسان، 4/ 110.
(2) المصدران نفسهما، 4/ 599 ن ص 468.
(3) نهج البلاغة، محمد عبده، ص631.
(4) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد،4/ 607.
(5) التوبة: 13.
(6) معاني القرآن وإعرابه، الزّجاج، 2/ 436، وينظر إعراب القرآن النحاس، 2/ 205.
(7) ديوان الخنساء، ص31.
ــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــ
حيت جاءت (ألا) حرف تحضيض، فهي تحثُّ عينيها على بكاء أخيها صخر وقد وَلى (ألا) فعل مضارع وهو (تبكيان).
هاتان الأداتان هما اللتان وردتا في كتاب نهج البلاغة في الدلالة على التحضيض، ولم ترد كل من (لولا، لوما، ألا). للدلالة على التحضيض وقد جاء هذا الأسلوب بقلَّة في نهجه ـ كرم الله وجهه، لأن كتابه في جلَّه مواعظ ونصائح وعبر وتهديد ووعيد: وقد وافق العربية وقواعدها في استعماله لهذا الأسلوب.