وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
التقعيد أو التأصيل معناه استخراج الأصول العامة من الأفراد الفرعية، وهذا الاستخراج يكون مبنيا على الاستقراء، والاستقراء يختلف من شخص إلى آخر من حيث التوسع والاستيعاب.
وقد اتفقت كلمة أهل العلم - إلا من لا عبرة به - على استعمال الاستقراء في مسائل العلم جميعا وفي جميع العلوم.
فإذا سلمنا أن الاستقراء منهج أصيل وحجة قوية في أي علم - كما هو واضح - فلنسأل الآن: ماذا نعني بالاستقراء ولماذا نستقري أصلا؟!
إذا كنا سنستقري أفراد مسألة معينة ثم بعد ذلك لا نستفيد شيئا من هذا الاستقراء، فلماذا نتعب أنفسنا، ولماذا أجهد العلماء أنفسهم واتفقت كلمتهم على مثل هذا الاستقراء؟!
يعني مثلا باستقراء كلام العرب وجد العلماء أن الفاعل مرفوع وأن المفعول منصوب، والاستقراء هنا شامل لعشرات الألوف من النصوص الواردة عن العرب، ولكن هذا لا يمنع من أنك قد تجد في بعض النصوص الواردة عن العرب أن الفاعل منصوب وأن المفعول مرفوع!
فماذا ستفعل إزاء هذا الأمر؟!
إما أن تقول: كلاهما صواب، وحينئذ يكون الاستقراء الذي فعله العلماء بغير فائدة، ولذلك لم يقل أحد منهم بذلك.
وإما أن تقول: بل الوارد في ألوف النصوص هو الصواب، والآخر شاذ؛ لأنه لم يرد إلا في نصوص قليلة جدا لا تصلح لتقعيد قاعدة أو تأصيل أصل، وهذا هو المنهج الذي يسير عليه العلماء في العلوم المختلفة.
فأنت أخي الكريم فهمت المسألة بالعكس، فظننت أن القاعدة تقعد أولا ثم تطبق على النصوص، وهذا خطأ، بل النصوص تستقرى أولا، ثم ينظر إلى المهيع المطرد والباب المسلوك والطريق الواضح فيتبع، وما خرج عن ذلك إما أن يكثر فيقدح في التقعيد السابق، وإما أن يقل فلا يقدح بل يحكم بشذوذه؛ لأنه لا معنى للاستقراء إلا هذا.
هذا هو المنهج الذي يسلكه العلماء في مختلف العلوم، وليس النحو بدعا في ذلك.
وليس الحكم بالشذوذ على بعض الوارد معناه إبطاله، وإنما معناه التوقف به على محله وعدم تعديه إلى غيره، ولم يفهم بعض المتأخرين هذا المعنى فظن أن قول العلماء بشذوذ بعض القراءات القرآنية أو بعض الوارد عن العرب معناه القدح في القرآن أو التشكيك في كلام العرب، وهذا فهم باطل لم يقصده أحد من العلماء، وإنما المقصود أن هذا الوارد لا يقاس عليه غيره بل يقتصر به على محله فقط.
ـ[أبو مالك العوضي]ــــــــ[25 - May-2008, صباحاً 03:19]ـ
قال الشاطبي في المقاصد الشافية (3/ 456):
((وربما يظن من لم يطلع على مقاصد النحويين أن قولهم "شاذ" أو "لا يقاس عليه" أو "بعيد في النظر القياسي" أو ما أشبه ذلك ضعيف في نفسه وغير فصيح، وقد يقع مثل ذلك في القرآن؛ فيقومون في ذلك بالتشنيع على قائل ذلك، وهم أولى لعمر الله أن يشنع عليهم، ويمال نحوهم بالتجهيل والتقبيح، فإن النحويين إنما قالوا ذلك لأنهم لما استقروا كلام العرب ليقيموا منه قوانين يحذى حذوها وجدوه على قسمين:
قسم سهل عليهم فيه وجه القياس ولم يعارضه معارض لشياعه في الاستعمال وكثرة النظائر فيه فأعملوه بإطلاق؛ علما بأن العرب كذلك كانت تفعل في قياسه.
وقسم لم يظهر لهم فيه وجه القياس، أو عارضه معارض لقلته وكثرة ما خالفه. فهنا قالوا إنه "شاذ" أو "موقوف على السماع" أو نحو ذلك؛ بمعنى أنا نتبع العرب فيما تكلموا به من ذلك ولا نقيس غيره عليه، لا لأنه غير فصيح، بل لأنا نعلم أنها لم تقصد في ذلك القليل أن يقاس عليه، أو يغلب على الظن ذلك، وترى المعارض له أقوى وأشهر وأكثر في الاستعمال، هذا الذي يعنون لا أنهم يرمون الكلام العربي بالتضعيف والتهجين، حاش لله، وهم الذين قاموا بفرض الذب عن ألفاظ الكتاب، وعبارات الشريعة، وكلام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهم أشد توقيرا لكلام العرب، وأشد احتياطا عليه ممن يغمز عليهم بما هم منه برآء.
اللهم إلا أن يكون في العرب من بعد عن جمهرتهم، وباين بحبوحة أوطانهم، وقارب مساكن العجم، أو ما أشبه ذلك ممن يخالف العرب في بعض كلامها وأنحاء عباراتها فيقولون: هذه لغة ضعيفة، أو ما أشبه ذلك من العبارات الدالة على مرتبة تلك اللغة في اللغات، فهذا واجب أن يعرف به، وهو من جملة حفظ الشريعة والاحتياط لها. وإذا كان هذا قصدهم وعليه مدارهم فهم أحق أن ينسب إليهم المعرفة بكلام العرب ومراتبه في الفصاحة، وما من ذلك الفصيح قياس، وما ليس بقياس، ولا تضر العبارات إذا عرف الاصطلاح فيها)).