ومن شواهد ذلك ـ مثلاً ـ قوله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) [البقرة: 197]، فقد اختلف القراء السبعة في قراءة (رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ)، قال ابن مجاهد: ((قرأ ابن كَثِير ([10]) وأبو عمرو: (رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ) ـ بالضم فيهما والتنوين ـ، وقرأ الباقون: (فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ) ـ بالنصب بغير تنوين ـ، ولَم يَختلفوا فِي نصب اللام فِي (& eth; جِدَالَ) من قوله: (وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ) في نفس الآية.)) (4).
فأنت تَجد ـ هنا ـ أنّ القراء الخمسة قرأوا (رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ) على أنهما اسما (لا) النافية للجنس، وقرأ ابن كثير، وأبوعمرو البصري (رَفَثٌ وَلاَ فُسُوقٌَ) على أنهما اسْما (لا) العاملة عمل (ليس)، وكلا القراءتين تدل على عموم منع الرفث، والفسق، ولا يجوز أن يُقال على قراءة الرفع: إنّ النكرة تدل على الوحدة؛ لأنّ هذا يُفهم منه أن الممنوع بعض الرفث والفسق، ويدل على أنّ القراءتين معناهما واحدٌ اتفاق القراء السبعة على فتح (& eth; جِدَالَ)، وهي بلا شك معطوفة على الرفث والفسق على كلا القراءتين مما يمنع دلالة قراءة الرفع على الوحدة، ويُوجِبُ نفي الجنس، والدليل ما جاء في حجة القراءات: ((النفي به أعم والمعنى عليه؛ لأنه لم يرخص في ضرب من الرفث والفسوق كما لم يرخص في ضرب من الجدال.)) ([11]).
ومن شواهد ذلك ـ أيضاً ـ قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة: 254] فقد قرأ ابن كثير، وأبوعمروٍ البصري: (لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ) ـ بالنصب ـ في كل ذلك ـ بلا تنوين ـ، بينما قرأ بقية السبعة بالرفع ([12])، وعلى كلا القراءتين يقتضي الْمعنى نفي جنس الفداء والْخلة والشفاعة عن غير الله عزوجل يوم القيامة، ولو حُمِلتُ قراءة الْجمهور على الوحدة لَما أفادت نفي جنس المذكورات في الآية، بل نفي بعضها، وهذا لا يصح، ويؤيد هذا قول الزركشي: ((قُرِئ ـ بالرفع والنصب فيهما ـ، والْمعنى فيهما واحد.)) ([13]) فهو ـ هنا ـ لَم يفرق بين دلالة النكرة مع اختلاف ألفاظ القراءتين؛ لأن الْمعنى يقتضي ذلك، ولأن النفي يقتضي العموم مطلقاً.
كما أنّ مِن الْمُسَلَّمِ به أنّ القراءات وإن اختلفت ألفاظها فهي تفسر بعضها بعضاً، وهذا ما يدل عليه عدم تناقضها.
يُعلمُ مِما تقدّم أنّ الأصل دلالة كل نكرة وقعت بعد نفي على العموم، ولا تدل على الوحدة إلا بدليل خارجي.
وما ورد في القرآن الكريم مِما اختلف العلماء في عموم نكرته أو وحدته الراجح فيه أنه متى وردت قراءة أخرى فيه تدل على عمومٍ اتُفِقَ عليه بين العلماء وجب الْمصير إلى الدالة على العموم؛ لاتفاق العلماء على دلالتها على الجنس؛ ولأن الأصل فيما وقع بعد النفي العموم؛ ولأنّ القراءات يُفسِّر بعضها بعضاً، ولا يُصَار إلى غيره إلا بدليل ـ والله تعالى أعلم ـ.
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً
حرر في يوم 06/ 07 /2007
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) ـ ـ ينظر: البرهان في أصول الفقه:1/ 232.
([2]) ـ كالزمخشري في الكشاف:1/ 76، وابن مالك في شرح التسهيل:2/ 53، والقرافي في الذخيرة:1/ 88، تح: محمد حجي، دار الغرب، بيروت، لبنان، د. ط، 1414هـ/1994م، وابن عقيل في شرحه على ألفية ابن مالك:2/ 5، وابن هشام في شرح شذور الذهب:272، والأسنوي في التمهيد:1/ 320، والزركشي في معنى لا إله إلا الله:92، والآلوسي في روح المعاني:13/ 223.
([3]) ـ كابن هشام في المسائل السفرية:14، تح: د ـ حاتم صالح الضامن، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، ط/1، 1403هـ/1983م، وابن أمير حاج في التقرير والتحبير:1/ 242 ونقله عن علماء الأصول واللغة، والشوكاني في إرشاد الفحول:208 ونقله عن سيبويه.
([4]) ـ ينظر: درة الغواص في أوهام الخواص:238.
([5]) ـ إرشاد الفحول:208
([6]) ـ هو محمد ابن أمير حاج الحلبي الحنفي (825 هـ ـ 879 هـ)، أصولي، مفسر، من كتبه: ذخيرة القصر في تفسير سورة والعصر، والتقرير والتحبير. ينظر: الضوء اللامع:9/ 210، وشذرات الذهب:4/ 328.
([7]) ـ التقرير والتحبير:1/ 242.
([8]) ـ البرهان في علوم القرآن:4/ 352.
([9]) ـ الأحرف السبعة:60.
([10]) ـ هو أبوسعيد عبدالله بن كثير المكي المقرئ التابعي (45 هـ ـ 126 هـ)، أحد القراء السبعة، قرأ على عبدالله بن السائب، ومجاهد، وروى عنه: قنبل، والبزي. ينظر: الفهرست:42، ومعرفة القراء الكبار:1/ 86.
(4) ـ السبعة في القراءات:180.
([11]) ـ حجة القراءات:129.
([12]) ـ ينظر: السبعة في القراءات:187.
([13]) ـ البرهان في علوم القرآن:4/ 352.
¥