وكل نوع من المخلوقات لا ينشأ إلا من جنس نوعه فإن نفس الإنسان لا تنشأ إلا من نفس إنسان آخر كما في قوله تعالى {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة) وهذه النفس الواحدة وهي نفس آدم عليه السلام خلق منها نفسا ثانية هي نفس حواء كما قال تعالى (و خلق منها زوجها) ثم خلق من تزاوج النفسين أنفسا كثيرة هي أنفس ذرية آدم كما قال تعالى: (وبث منهما رجالا كثيرا و نساء). و نلاحظ أن الآية لا تقول "خلقكم من إنسان واحد" بل من نفس واحدة، ذلك لأن النفس هي أنفس ما في الإنسان فهي الكائن العاقل المخاطب أما البدن – الذي يتولد أيضا من أبدان الوالدين - فهو تابع للنفس. و لذلك كان توالد الأنفس أهم من توالد الأبدان. و لذلك فإن قوله تعالى (ومن أنفسهم) في الآية التي نتحدث عنها معناه أن أحد عناصر تكوين الأزواج مستخرج من أنفس الأزواج ذاتها، كما قال في الآية (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا) مما يدل على أن الأنفس إنما تتناسل من الأنفس. و نفهم من هذا الجزء من الآية وهو قوله تعالى (من أنفسهم) أن النفس هي العنصر الثاني من عناصر تكوين الأزواج.

و لو أن نص الآية كان (مما تنبت الأرض و من الأنفس) لما علمنا المصدر الذي تأتي منه نفس الجنين ولكن الضمير (هم) في كلمة (أنفسهم) بيّن لنا أن أنفس الأجنة إنما تنشأ من أنفس الأزواج ذاتها وليست من خارجها.

و الضمير المذكور في كلمة (أنفسهم) يمكن أن يخص الذكور والإناث بمعنى، و يمكن أن يخص الذكور وحدهم بمعنى آخر.

أما اختصاصه بالجنسين فيستند إلى أن ضمير الجمع إذا كان مذكرا يمكن أن يجمع الجنسين ذكورا وإناثا مثل قوله تعالى {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} والمؤمنون فيهم الذكور والإناث. و المعنى الذي تفيده كلمة (أنفسهم) عندما نعتبرها موجهة إلى الجنسين هو أن نفس الولد مركّبة من نفس الأب و من نفس الأم. أي أن الأم أيضا تهب من نفسها لولدها. أنظر قوله تعالى {وبث منهما رجالا كثيرا و نساء}. أي بث من النفسين -لا من نفس الأب فقط - نفسا ثالثة هي نفس الابن. و الدليل على ذلك أننا نرى الولد يرث من صفات أبيه النفسية و كذلك من صفات أمه النفسية، تماما كما يرث من صفاتهما البدنية على درجات متفاوتة. ومن هنا ينشأ التشابه في السمات النفسية و البدنية بين الولد ووالديه.

و العنصر الثالث من عناصر تكوين الأزواج هو العنصر الذي لا نعلم عنه شيئا، وهو الروح التي أكّد جهل الناس بها قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) [الإسراء: 85]

رابعا: هذه المفردات (جسم) و (بدن) و (جسد) و (بشر)

إن كلمة (جسم) كلمة عامة تشمل كل ما يتحيز في المكان أي كل ما له طول و عرض و ارتفاع.

أما كلمة (بدن) فتدل على جسم لا روح فيه ولا نفس. وقد وردت الكلمة في القرآن في موضع واحد فقط في قوله تعالى لفرعون {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس: 92] و من المعروف أن نفس فرعون و روحه في البرزخ تعرضان على النار غدوا وعشيّا، والذي بقى هو بدنه يشاهده الناس.

وأما كلمة (جسد) فتعنى البدن الذي فيه روح و لكن ليس فيه نفس كما هو حال النائم. و المعروف أن النائم لا يأكل و لا يشرب ولا يتكلم و ذلك لغياب النفس التي تدفع الجسد للقيام بهذه الوظائف. انظر إلي قوله تعالى (وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ) [الأنبياء: 8] أي أجساما فيها الروح ولكن ليس فيها النفس. وقوله تعالى (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ) [الأعراف: 148] و كذلك قوله تعالى (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ) [طه: 88] لا يأكل و لا يشرب و لا يتكلم، ولكن يصدر أصواتا (خوار) كحال النائم. . و قوله تعالى: (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ)

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015