(وبالجملة فإنه لم يؤخذ لا من لخم ولا من جذام لمجاورتهم أهل مصر والقبط، ولا من قضاعة وغسان وإياد لمجاورتهم أهل الشام، وأكثرهم نصارى يقرءون بالعبرانية، ولا من نغلب واليمن فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان، ولا من بكر لمجاورتهم للقبط والفرس).
إن مراجعة كتاب (الألفاظ والحروف) للفارابي الذي نشره محسن مهدي في بيروت سنة 1969م لا تغني شيئا في إصلاح التحريف الواقع في المزهر؛ لأن بكتاب الفارابي نقصا في مخطوطته، ترتب عليه ضياع نصوص كثيرة، منها هذا النص الوارد في المزهر.
ويقف المرء حائرا أمام هذا النص؛ إذ كيف لليمن أن تكون بالجزيرة مجاورة لليونان؟ ثم كيف لبكر أن تمتد بجناحيها في شمالي الجريرة العربية فتجاور في الشرق الفرس في إيران، كما تجاور في الغرب القبط في مصر؟
ويتحير الباحث ويزداد عجبه حين يرى مجموعة كبيرة من علمائنا الأفاضل يقتبسون هذا النص من المزهر ويضعونه في بحوثهم دون أن يخطر على بالهم أن به تحريفات فاحشة، وثوقا منهم بنص قد طبع محققا، هو نص المزهر؛
فهذا هو الشيخ محمد علي الدسوقي في كتابه (تهذيب الألفاظ العامية) (ص 42) والمستشرق الألماني أوجست فيشر في كتابه (المعجم اللغوي التاريخي) (ص 12 - 13) وأدَّى شير في كتابه (الألفاظ الفارسية المعربة) (ص 3) والأستاذ عبد الوهاب حمودة في كتابه (القراءات واللهجات) (ص 29) والدكتور مهدي المخزومي في كتابه (مدرسة الكوفة) (ص 54) والدكتور صبحي الصالح في كتابه (دراسات في فقه اللغة) (ص 114) والدكتورة بنت الشاطئ في كتابها (لغتنا والحياة) (ص 32) والأستاذ أحمد عبد الغفور عطار في كتابه (الفصحى والعامية) (ص 28) والدكتور إبراهيم السامرائي في كتابه (العربية بين أمسها وحاضرها) (ص 22) – كل هؤلاء العلماء الأفاضل يقتبسون نص المزهر ولا يقفون أمام عبارته التي لا يقبلها العقل؛ لأنهم وثقوا فيه!
وحين توقفت أنا أمام هذا النص، قبل نحو عشرين عاما، رأيت أن أراجع من أجله كتب السيوطي اللغوية، في محاولة للعثور فيها على هذا النص مرة أخرى، إذ تعودنا ذلك من كثير من المؤلفين، حين يستخدمون النص الواحد في أكثر من كتاب من مؤلفاتهم لمناسبات شتى .. وقد صدق حدسي؛ إذ وجدت النص نفسه مرة أخرى، في كتاب (الاقتراح في أصول النحو) للسيوطي، وفيه صواب العبارة: (ولا من تغلب والنمر، فإنهم كانوا بالجزيرية مجاورين لليونانية، ولا من بكر لأنهم كانوا مجاورين للنبط والفرس)
فانظر كيف حرفت كلمة (النمر) فصارت في نشرة المزهر (اليمن)، كما حرفت أختها (النبط) فصارت في هذه النشرة كذلك (القبط).)) انتهى.
قلت: راجعت مخطوطتين أزهريتين للمزهر إحداهما حديثة وبها هذا الخطأ نفسه! والثانية أقدم منها وهي على الصواب والوجه
ـ[أبو مالك العوضي]ــــــــ[03 - Feb-2007, مساء 09:08]ـ
ومن الأخطاء المكرورة كذلك محاكمتهم المتقدمين على مصطلحات المتأخرين!
ومما يحضرني في هذا الباب كلمة (حرف)، فالمتقدمون يستعملونها بمعنى (كلمة)، وقد وقفت على تحقيقات لعدة محققين خطئوا المصنف في قوله ذلك، وقالوا: (لم نر من زعم أن هذه الكلمة حرف غير المصنف)!!
مع أن المصنف لا يقصد الحرفية بالمعنى الاصطلاحي عند النحويين، وإنما يقصد المعنى المشهور عند المتقدمين، بمعنى كلمة مطلقا.
وبعض المحققين يتفلسف أحيانا ويقول: [هكذا قال المؤلف (حرف) بمعنى كلمة، وهو اصطلاح جرى عليه في هذا الكتاب]!
ولو كان المحقق مستشرقا، أو رجلا أعجميا، لالتمسنا له العذر، وقلنا: هذا رجل بعيد عن كتبنا، ولا يفهم اصطلاحاتنا، ولكن أن يصدر مثلُ هذا الكلام من بني جلدتنا ومن يتكلمون بألسنتا، ثم يزعمون بعدُ أنهم من أهل التحقيق، وممن تسنموا جبال التصحيح والإخراج!
ـ[أبو مالك العوضي]ــــــــ[03 - Feb-2007, مساء 09:09]ـ
ومن الأخطاء المكرورة أيضا ما ينقله كثير من المحققين والباحثين والمؤلفين في مقدمات كتبهم، أو في صفحة الغلاف.
وهذه صورته:
((قال العماد الأصفهاني: إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابا في يومه إلا قال في غده: لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر))
والصواب أن هذا الكلام للقاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني الملقب بأستاذ البلغاء من رسالة له بعث بها إلى العماد الأصفهاني يعتذر إليه من كلام استدركه عليه.
ـ[أبو مالك العوضي]ــــــــ[03 - Feb-2007, مساء 09:16]ـ
ومن الأخطاء المكرورة أيضا تصحيف (البدائه) إلى (البداية)
فإن المصنفين في علوم الأدب وعلم الكلام وعلم أصول الفقه يستعملون هذه العبارة أو نحوها (وهذا معروف ببدائه العقول) فيصحفها المحقق إلى (ببداية العقول)
والعبارة الأخيرة محتملة عقلا، ولكن استعمال أهل العلم يجعل العبارة الأولى هي الصواب قطعا؛ لأنهم يستعملون مشتقاتها كثيرا فيقولون: (يعرف هذا ببديهة العقل)، (وهذا واضح بالبداهة) أو (بداهةً بلا فكر) أو (بديهة بغير نظر)، وهي عبارات مشهورة في كلام أهل العلم.
والله أعلم
¥