والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكمَ به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يُطبِّقُ أحدهما على الآخر، فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرًا، فالعالِمُ مَن يتوصَّلُ بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله، كما توصَّل شاهِدُ يوسف بشق القميص من دبرٍ إلى معرفةِ براءته وصدقه ... ).

ثم شرع رحمه الله في ذكر الأمثلة فيما ذكرَ، حتى قال رحمه الله: ( ... ومَن سلَكَ غيرَ هذا أضاع على الناس حقوقهم ونَسَبَهُ إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله) أهـ. انظر إعلام الموقعين (ص66) دار طيبة.

وروي عن الإمام مالك أنَّه قال: (العلمُ: الحكمةُ، ونورٌ يهدي به الله مَن يشاء، وليسَ بكثرة المسائل) انظر شرح السنَّة للبغوي (1/ 284).

قلتُ: ذلك لأنَّ أصلَ الفقه الفهم، كما قال ابن حزم رحمه الله حين وصف الفقيه ومَن يُطلق عليه اسم الفقيه: (وأمَّا اسمُ الفقه: فهو واقعٌ على صفةٍ في المرء، وهي فهمهُ لما عندهُ، وتنبُّههُ على حقيقة معاني ألفاظ القرآن والحديث، ووقوفه عليها، وحضور كل ذلك في ذكره متى أراده) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (1/ 119).

وكم مِن عالمٍ في زماننا يدعي العلم، وعند إطلاق الحكم نراه يتخبَّط ولا يُحسِنُ وضع الأمور في مواضعها، بل الكثيرون – وخصوصًا مَن يظهر في القنوات الفضائية الفاسدة – يُجازفون في إصدار الأحكام قبل فهم الحوادث والوقائع، ولا يملكون القدرة على استيعاب الأمر وإحاطته مِن جميع جوانبه، بل بعضهم لا يُحاول على ذلك، وأكثرهم مِن أصحاب الأهواء الضالين.

ومِن المعلوم أنَّ السلف كانوا يتوقفون فيما لم يفهموه حتى يتبيَّن لهم الأمر فلا يبقى معه أدنى شبهة، ثم بعد ذلك يُطلقون الحكم وربما امتنع بعضهم وأحال الأمر على صاحبه حتى بعد أن تبيَّنت له حقيقة الواقعة والحادثة تنزُّهًا وتورُّعًا عن الفتيا.

- (()) -

المسألة الثالثة: الخطأ يكون على ثلاثة أضرب بالاستقراء في الأدلَّة مِن الكتاب والسُّنَّة:

الضرب الأول: خطأ غير مرتبطٍ بالقصد ولا الإرادة، كالذي رمى الصيد فأصاب إنسانًا بغير قصد، وكالرجل الذي ورد في الحديث أنَّه وجَدَ راحلتهُ فقال مِن شدَّة الفرح: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك" أخطأ مِن شدة الفرح، أو كالذي أُكره على فعل مُحرَّمٍ، كأن يُسقى خمرًا بالقوَّة، فهذا مُخطئٌ في الحقيقةِ لكن مِن غير قصدٍ ولا إرادة، ولا يأثم مَن كان هذا حاله.

الضرب الثاني: خطأ مرتبط بالإرادة غير مرتبط بالقصد، كالذي أكل ناسيًا وهو صائم، فهو مريدٌ للأكل فَعَلَ الفِعْلَ بإرادته مِن غير قصدٍ له، إذْ هو لا يُريدُ إفسادَ صومهِ فلولا النسيان لما أكل، وكالذي وطئ امرأةً لقيها في فراشه ليلاً ظانًّا أنَّها امرأتهُ، فهذا فعَلَ الفِعْلَ بإرادتهِ مِن غيرِ قصدٍ لفعل المحرَّم، ولولا ظلمة الليل والتباس الأمر لما فعله، وهذا أيضًا خطؤه مغفور لا يأثم فاعله.

الضرب الثالث: خطأ مرتبط بالإرادة والقصد، كأن يأكل الإنسان وهو صائم ذاكرًا بإرادته مِن غير إكراهٍ ولا عذرٍ شرعي، أو لو وطئ أجنبيةً عالمًا بأنَّها لا تحل له، فهذا آثمٌ عاصٍ.

وخطأ المجتهد في الفتيا يلزم منه فهم حقيقة الاجتهاد، وكلام الأصوليين في باب الاجتهاد يُحيط بهذا عادةً، ولعلي بالمناسبة أذكره توطئةً:

فالاجتهاد لغةً: مِن الجهدُ وهو الطاقة، وهو استفراغُ الوسع لتحصيل أمرٍ شاق.

والاجتهاد اصطلاحًا: استفراغُ الفقيه وسعهُ بحيث تحس النفس بالعجز عن زيادة استفراغه لدَرْكِ حكمٍ شرعي. انظر شرح الكوكب المنير (4/ 458) طبعة العبيكان.

ولذا نستطيع أن نقول: أنَّ الفقيهَ أو العالم الذي يفقه الواقع، وحَصَل منهُ الخطأ في واقعةٍ أو حادثةٍ معيَّنة، فخطؤه في الغالب لا يخلو مِن حالتين:

الأولى: أن يكونَ خطؤه ناتجًا عن الهوى والرغبات والمصالح الدنيوية، ومَن هذا حاله فهو مِن أصحاب الأهواء الضالين. ولا حاجة إلى التفصيل فيه، فأمره ظاهر، والنصوص في الوعيد على هذا أشهر مِن أن تذكر هنا.

الثانية: أن يكون خطؤه عن جهلٍ مركَّبٍ بالقضيَّة أو الحادثة أو الواقعة المعيَّنة بعدما استفرغَ وسعه في طلب الحق. لأنَّ الجهل نوعان: جهلٌ مركبٌ وجهل بسيط، فالمركب هو تصور الشيء على غير هيئته، والبسيط انتفاء إدراك الشيء بالكليَّة. وإذا كان الفقيه المجتهد قد أخطأ بعد أن اجتهد في واقعة أو حادثة فلابدَّ أن يكون خطؤه لأسبابٍ شرعيَّة منعت مِن تصور الواقعة أو الحادثة على غير هيئتها الصحيحة، ومَن هذا حاله فخطؤه مغفورٌ، وهو معذورٌ مأجورٌ إن شاء الله.

ويمكننا إدراج خطأ المخطئ في فهم واقعةٍ أو حادثة معيَّنَة بأنَّه مِن الضرب الثاني، والمخطئ في فهم الواقع وفقهه مِن الضرب الثالث.

والله أعلم بالصواب، وصلى الله على نبينا محمد،،

كتبه: صالح الجبرين.

رابط المقال: http://albahethalsalafi.blogspot.com/2010/12/blog-post.html

طور بواسطة نورين ميديا © 2015