الخاتمة: بعد تأمل أدلة كلا القولين، وبالنظر في المقاصد الشرعية من تنصيب الولاة والحكام، والمصالح والمفاسد التي تنبي عليه هذه المسألة = اتضح لي: أنَّ القول بأحد القولين على إطلاقه مجانب للصواب، مخالفٌ للمقاصد الشرعية في هذا الباب؛ فلذا: يجب الجمع بين القولين، ووضع الضوابط التي تضبط المسألة؛ فأقول – مستعيناً بالله –:
أولاً: المسائل الشرعية التي وقع عليها إجماعٌ صحيح من العلماء؛ فهذه لولي الأمر أن يلزم الناس فيها بما جاء في الإجماع.
ثانياً: المسائل الشرعية التي دلَّ عليها النص الصحيح الصريح ووقع فيها خلاف ضعيفٌ أو شاذ؛ فهذه لولي الأمر أن يلزم الناس فيها بما جاء به النص، وهذا باتفاق المسلمين كما حكاه شيخ الإسلام - رحمه الله -.
ثالثاً: المسائل الشرعية التي جاءت فيها نصوص شرعية؛ لكن الخلاف فيها قوي؛ فهذه ليس لولي الأمر أن يلزم الناس فيها بقولٍ من الأقوال إلا
1 - إذا رأى المصلحة الشرعية تقتضي إلزام الناس بأحد الأقوال،
2 - وبشرط أن لا يكون هذا القول يوقع القائلين بالقول الآخر في حرجٍ شرعي من تأثيم أو بطلان ونحو ذلك.
مثاله: إلزام النساء بتغطية الوجه، واشتراط الولي في النكاح.
رابعاً: المسائل التي لم يأت فيها نصٌ شرعي، وإنما هي اجتهادات من الفقهاء بناءً على المصالح وسد الذرائع ونحو ذلك؛ فللإمام أن يُلزم الناس بما رآه، وهذا مبني على قاعدة (تبدل الأحكام، بتبدل الزمان والمكان).
ويقيد هذا بما كان فيه مصلحة للمسلمين لا على حسب أهواء الحاكم ومصالحه الخاصة، وقد بيَّن ذلك العلامة ابن سحمان – رحمه الله – كما في الرسائل والمسائل النجدية (3/ 165): غلط صاحب الرسالة في معرفة الضرورة، فظنها عائدة إلى مصلحة ولي الأمر في رياسته وسلطانه، وليس الأمر كما زعم ظنه؛ بل هي من ضرورة الدين وحاجته إلى من يعين عليه، وتصلح به مصلحته، كما صرَّح به من قال بالجواز، وقد تقدم ما فيه. اهـ.
خامساً: يشترط فيما تقدم أن يكون الإمام عالماً مجتهداً عادلاً، وإن لم يكن كذلك فيجمع علماء بلده، وأهل الحل والعقد، ويستشيرهم، ويعمل بقولهم.
أما إذا كان الإمام فاسقاً جائراً مراعياً مصالح كرسيه؛ فالحكم فيه ما قاله شيخ الإسلام – رحمه الله – في المجموع (29/ 196): والإمام العدل وجبت طاعته فيما لم يعلم أنه معصية، وإذا كان غير عدل فتجب طاعته فيما عُلِمَ أنه طاعة كالجهاد.
وكذلك يجب أن يكون أهل العلم وأهل الحل والعقد الذي تتم استشارتهم محلَّ تقدير عند عموم الأمة، وعليهم أن يبينوا الحجة الشرعية في ذلك، كما قال شيخ الإسلام – رحمه الله – في المجموع (35/ 383): ... فعلماء المسلمين الكبار لو قالوا بمثل قول الحكام لم يكن لهم إلزام الناس بذلك إلا بحجة شرعية لا بمجرد حكمهم.
سادساً: أن يكون هذا من الناحية العملية، أما من الجهة العلمية فليس حكم الحاكم وإلزامه مغيراً للأحكام الشرعية، ولا مرجحاً لقولٍ على آخر.
ولعله بهذه الضوابط المذكورة تكون المسألة متزنة؛ فلم تسلب الإمام صلاحياته التي أعطته إياها الشريعة الإسلامية، ولم تعطه صلاحياتٍ تجعله في منزلة المشرع للأحكام.
وأخيراً أقول ما قاله شيخ الإسلام – رحمه الله – في المجموع (10/ 267): فليس لأحد إذا أمره الرسول – صلى الله عليه وسلم – بأمرٍ أن ينظر: هل أمر الله به أم لا؟ بخلاف أولي الأمر فإنهم قد يأمرون بمعصية الله، فليس كل من أطاعهم مطيعاً لله؛ بل لابد فيما يأمرون به أن يُعْلَمَ أنه ليس بمعصية لله، وينظر هل أمر الله به أم لا؟!
هذا ما تيسر لي جمعه وكتابته حول هذه المسألة؛ واللهَ أسأل أن أكون قد وفقتُ فيها لما هو صواب، فما كان من صوابٍ فمن الله، وما كان فيها من خطأ فمن نفسي والشيطان.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
حرر في آخر عصر يوم السبت الموافق 6/ 8 / 1426
وزدت فيه ونقصت، وكان آخر ذلك قبيل أذان الفجر من يوم الثلاثاء الموافق 29/ 9 / 1426
ـ[الحمادي]ــــــــ[21 - Nov-2006, مساء 10:03]ـ
بحثٌ موفق
بارك الله فيكم يا شيخ عبدالله
ـ[الألوكة]ــــــــ[22 - Nov-2006, مساء 01:24]ـ
¥