فمقصود البخاري من معرفة صحيح حديث الراوي من شيوخه لا يحصل بمجرد موافقة الثقات، وإنما يحصل بأحد أمرين: إما أن يكون الراوي ثقة ثبتاً فيعرف صحيح حديثه بتحديثه، وإما أن يكون صدوقاً يغلط ولكن يمكن معرفة ما لم يغلط فيه بطريق أخرى كأن يكون له أصول جيدة، وكأن يكون غلطه خاصاً بجهة كيحيى بن عبد الله بن بكير، روى عنه البخاري وقال في (التاريخ الصغير): (ما روى يحيى [ابن عبد الله] بن بكير عن أهل الحجاز في التأريخ فإني أتقيه)، ونحو ذلك.
فإن قيل: قضية الحكاية المذكورة أن يكون البخاري التزم أن لا يروي إلا ما هو عنده صحيح، فإنه إن كان يروي ما لا يرى صحته فأي فائدة في تركه الرواية عمن لا يدري صحيح حديثه من سقيمه؟
لكن كيف تصح هذه القضية مع أن في كتب البخاري غير الصحيح أحاديث غير صحيحة، وكثير منها يحكم هو نفسه بعدم صحتها؟
قلت: أما ما نبه على عدم صحته فالخطب فيه سهل وذلك بأن يحمل كونه (لا يروي ما لا يصح) على الرواية بقصد التحديث أو الاحتجاج، فلا يشمل ذلك ما يذكره ليبين عدم صحته؛ ويبقى النظر فيما عدا ذلك.
وقد يقال: إنه إذا رأى أن الراوي لا يُعرف صحيح حديثه من سقيمه تركه البتة تركه البتة ليعرف الناس ضعفه مطلقاً، وإذا رأى أنه يمكن معرفة صحيح حديثه من سقيمه في باب دون باب ترك الرواية عنه في الباب الذي لا يعرف فيه كما في يحيى بن بكير، وأما غير ذلك فإنه يروي ما عرف صحته وما قاربه أو أشبهه مبيناً الواقع بالقول أو الحال، والله أعلم».
وقال المعلمي في ترجمة ضرار بن صرد في التنكيل ص495 - 496: «وأما ضرار فروى عنه أبو زرعة أيضاً (39)، وقال البخاري والنسائي: (متروك الحديث)، لكن البخاري روى عنه وهو لا يروي الا عن ثقة كما صرح به الشيخ تقي الدين ابن تيمية، ومر النظر في ذلك في ترجمة أحمد بن عبد الله أبو عبد الرحمن. والظاهر التوسط وهو أن البخاري لا يروي الا عمن هو صدوق في الأصل يتميز صحيح حديثه من سقيمه، كما صرح به في رواية الترمذي عنه كما تقدم في تلك الترجمة؛ فقوله في ضرار: (متروك الحديث) محمول على أنه كثير الخطأ والوهم، ولا ينافي ذلك أن يكون صدوقاً في الأصل يمكن لمثل البخاري تمييز بعض حديثه. وقال أبو حاتم في ضرار: (صدوق صاحب قرآن وفرائض يكتب حديثه ولا يحتج به، روى حديثاً عن معتمر عن ابيه عن الحسن عن أنس عن النبي ? في فضيلة بعض الصحابة ينكره أهل المعرفة بالحديث).
أقول: متنه: (قال لعلي: أنت تبين لأمتي ما اختلفوا فيه بعدي)، أخرجه الحاكم في (المستدرك) ج3 ص122 وقال: (صحيح على شرط الشيخين)، قال الذهبي: بل هو فيما أعتقده من وضع ضرار، قال ابن معين: كذاب).
أقول: لا ذا ولا ذاك، والصواب ما أشار إليه أبو حاتم، فإنه أعرف بضرار وبالحديث وعلله، فكأن ضراراً لُقّن أو أدخل عليه الحديث أو وهم؛ فالذي يظهر أن ضراراً صدوق في الأصل لكنه ليس بعمدة فلا يحتج بما رواه عنه من لم يعرف بالاتقان، ويبقى النظر فيما رواه عنه مثل أبي زرعة أو أبي حاتم أو البخاري، والله أعلم».
وقوى مؤلفا تحرير التقريب بعض الرواة او عضداهم برواية البخاري عنهم خارج الصحيح، وذلك لا يستقيم، قال المعلمي في تخريج الفوائد المجموعة (ص354) في بعض الضعفاء: «وروى له البخاري في الادب المفرد، وليس في ذلك ما يشد منه، لأن البخاري لا يمتنع في غير الصحيح عن الرواية عن الضعفاء، فقد روى عن ابي نعيم النخعي وهو كذاب، وعن الفرياناني وهو كذاب ايضاً».
كذا قال المعلمي هنا مع أن الذي انتهى إليه تحقيقه في التنكيل خلاف ذلك، كما تقدم قبل قليل في ذلك المبحث النفيس في تحقيق شرط البخاري في شيوخه.
تكميل: قال ابن حجر في مقدمة شرح البخاري: «الفصل التاسع: في سياق أسماء من طعن فيه من رجال هذا الكتاب مرتبا لهم على حروف المعجم والجواب عن الاعتراضات موضعا موضعا وتمييز من أخرج له منهم في الأصول أو في المتابعات والاستشهادات مفصلاً لذلك جميعه.
¥