وإذا كان كذلك فما فضل صحيحه على كتب الصحاح الأخرى (ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والضياء)؟ فكل واحدٍ من هؤلاء العلماء – بل وكل طالب علمٍ اليوم - قادر على أن يكتشف معاصرة راوٍ لآخر بأقل جهدٍ وبأدنى بحث، فبماذا فَضَلهم الإمام مسلم؟

ولو جاء أحدهم اليوم وألَّف كتاباً في الصحيح اشترط فيه ألا يعتبر في التصحيح إلا المعاصرة فقط سواءٌ ثبتَ السماع في هذا الحديث أو لم يثبت = للَزِمَنا أن نجعله موازياً لصحيح مسلم لأن شرط المعاصرة يحسنه كلُّ أحد! وإن فضَّلنا صحيحَ مسلمٍ عليه فلاعتباراتٍ أخرى غير الصحة!

هذا أحدُ أيسرِ اللوازم للقول بأن مسلماً يكتفي في التصحيح بمجرد المعاصرة.

* * * *

وهنا أحب أن أُسجِّلَ رأياً لي، لا أنسبه لأحد، ولا أنفيه عن أحد، فلا يبعد أن يكون ورد على ذهنٍ ما، أو دُوِّن في كتابٍ ما، وهو:

إذا نحن اتفقنا على أن محل النزاع هو الصورة التي ثبتت فيها قرائن السماع، فلعل قائلاً يقول بقيت الصورة التي ادعاها الشيخ حاج عيسى محلاً للنزاع وهي (الرواية التي لم يثبت فيها قرائن تنفي السماع ولا تثبته): ما رأي البخاري ومسلمٍ فيها؟

أقول – والله تعالى أعلم –: هذه الصورة لا تخرج عن حدود الفرض العقلي، أما الواقع فلا أظن لها واقعاً، وذلك أنه لا يتصوَّر في إمامٍ ناقدٍ، واسع الاطلاع، دقيق النظر، حادِّ الذكاء = أن يقف أمامَ روايةٍ ما فلا ينقدح في نفسه - بعد طول تأملٍ وتدبُّرٍ وتفتيشٍ - أيُّ معنى – ولو دقَّ هذا المعنى – يميل به ولو قليلاً إلى الإثبات أو النفي. هذا أمرٌ مستبعَدٌ جداً، بل لا وجود له إلا في الأذهان، أو في عصورنا المتأخرة التي انعدم فيها نقَّادٌ كمسلمٍ والبخاري.

فإذا حَصَلَ توقُّفٌ من إمام ٍ في رواية متعاصِرَين فإن هذا راجعٌ إلى تكافؤ القرائن عنده، لا لأنه – وهو إمام ناقد – لم ينقدح في نفسه أيُّ قرينة يؤيد السماع أو تنفيه.

* * * *

المسألة الثانية المتنازع فيها في الحديث المعنعن هي:

(تحرير حقيقة المذهب المنسوب للبخاري)

والعجيب أن الشيخ حاج عيسى لم يُعرِّج على هذا الخلاف الحاصل في فهم رأي البخاري، وكأن العلماء أجمعوا على فهمٍ واحدٍ لشرط البخاري! مع أن المفتَرَض عليه أن يقف عندها، لأنها محل نزاعٍ ينبغي تحريره.

وفرقٌ كبير بين تحرير حقيقة المسألة التي هي محل النزاع المزعوم بين البخاري ومسلم، وبين تحرير حقيقة قول البخاري في نفس المسألة.

فكان من ثمرات عدم تحريره محلَ النزاع فيها: قوله:

(من ثمرات عدم تحرير محل النزاع:

قال الشيخ حاتم (15): «لم يتنبه ابن رشيد و العلائي و الدريس إلى أنهم بميلهم إلى الاكتفاء بالقرائن القوية قد نسفوا ما ذهبوا إليه من تقوية اشتراط اللقاء أو السماع، إذ من أين لهم أن مسلما لم يكن مراعيا لمثل تلك القرائن؟! حتى يجعلونه مخالفا للبخاري. "

أقول: ولم يتنبه الشيخ حاتم إلى أن اللقاء ما هو إلا قرينة تقوي احتمال السماع وإلا فإن الأصل هو ثبوت السماع، قال ابن رجب في شرح العلل: « .. فدَلَّ كلام أحمد وأبي زرعة وأبي حاتم على أن الاتصال لا يثبت إلا بثبوت التصريح بالسماع، وهذا أضيق من قول ابن المديني والبخاري، فإن المحكي عنهما أنه يعتبر أحد أمرين: إما السماع وإما اللقاء وأحمد ومن تبعه عندهم لابد من ثبوت السماع) أ. هـ

أقول: بل لم يتنبه الشيخ حاج عيسى إلى أن إيراد الشيخ حاتم مفروضٌ على فهم ابن رشيد والعلائي والدريس لشرط البخاري، وليس مفروضاً على فهم ابن رجب لشرط البخاري! فاعتراضك ينبغي أن يكون عليهم لا على الشيخ حاتم الذي كان دقيقاً فيما نَسَبه إليهم من أقوال!

ومنشأُ هذا الخطأ منك هو عدم تحريرك لحقيقة رأي البخاري، فحمَلتَ فهومَ العلماء المتعددة لرأي البخاري على رأيٍ واحدٍ منها هو الذي تتبناه. فالدريس – مثلاً - أثبتَ بالأدلة (ص141 - 157) أن البخاري قد يكتفي بالمعاصرة إذا كانت قرائن الاتصال قوية، وهذا الإثبات حقيقته إبطالُ شرط ثبوت السماع المنسوب للبخاري، فكأنه شرط كمالٍ لا شرط صحة.

فالشيخ حاتم في هذا النص السابق يحاكم أحد الفهوم التي قال أصحابها إنها رأي البخاري، وألزَمَ أصحابه بإلزامٍ يُبطل عليهم فهمهم.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015