ثانياً: إذا أبطلتَ أدلة الشيخ حاتم على أن مسلماً هنا يعتبر قرائن السماع، وأثبتَ لنا بالأدلة القاطعة ألا وجودَ لاعتبار قرائن السماع في كلام مسلم بل وأن كلامه ضد اعتبارها = حين ذاك قُلْ ما شئتَ، وصِف دعوى الشيخ بما شئت. أمَّا إذا لم تفعل من ذلك شيئاً فإننا لن نزداد إلا قناعة بأن دعوى مخالفك صادقة تقتفي أثر الدليل حذو القذة بالقذة، لأن في ظاهر كلام مسلم ما يؤيده.
ثالثاً: تزعم أن ْ ليس في كلام مسلمٍ اعتبار قرائن السماع، وقد نجد لك عذراً في أنك كنت ظاهرياً هنا.
إلا أن مما يَعجب منه كل حَدِيثيٍ أن تزعم أن في كلام مسلمٍ ما هو (ضد) اعتبار قرائن السماع!
أي أن مسلماً لم ينطق باعتبار قرائن السماع فقط، بل نطق بعدم اعتبار قرائن احتمال السماع! ولو كان لمسلمٍ نصٌ بعدم اعتبار قرائنَ احتمال السماع لَما اختلفنا، ولَجعلناه مُنطلَقَنا في بحث المسألة.
فكل الذي يجده القارئ في كلام مسلم فيما يخص مسألة القرائن أمرين:
الأول: اعتبار قرائن نفي السماع عند الحكم بالانقطاع. وهذا محل اتفاق أنه في كلام مسلم، وهو متَعلَّق كلِ مَن يزعم أن مسلماً لا يراعي قرائن السماع.
الثاني: اعتبار قرائن ثبوت السماع عند الحكم بالاتصال، وهذا ما أثبته الشيخ حاتم من كلام مسلم.
هذا كل ما قيل إنه في كلام مسلم في شأن القرائن.
فماذا زاد الشيخ حاج عيسى؟ زاد دعوى جديدة أعم من الدليل (وهو كلام مسلم) ودعواه هي: إن مسلماً نص على عدم اعتباره القرائن عند حكمه بالسماع، أي كأن مسلماً يقول: (أنا حين أحكم بصحة حديثٍ فإني لا ألتفت للقرائن وإنما أكتفي بمجرد المعاصرة فقط، وأما القرائن حالَ الحكمِ بالاتصال فإني لا أعتبرها)!
وهذا من أعجب العجب! ونحن لن نلومك كثيراً إذا أصبحت ظاهرياً في علم الحديث وأَدَّتْكَ ظاهريتك إلى أنك لم تجد في كلام مسلمٍ سوى اعتبار قرائن نفي السماع = فإنَّا سنتفهَّم هذه الظاهرية، أما قولك إن في كلام مسلمٍ التصريحُ بعدم اعتبار القرائن عند الحكم بالسماع فهذه بعينها الدعوى الأعمُّ من الدليل! فإن قلت: لم أزعم أنه صريح كلام مسلم وإنما مفهوم كلامه، قلنا لك: ولو كان مفهومَه! فإنه مردود. وجوابه في المبحث الرابع:
رابعاً: قال الشيخ حاتم (ص23): (ومع أني ما كنتُ أحسب أن أحدًا سيَشكُ في أن إمامًا مثل مسلم (في نَقْدِه وجَهْبَذَتِه) كان مراعيًا للقرائن الشاهدة للسماع أو عدمه، لأن مراعاة هذه القرائن أمرٌ لا يخفى على طلبة الحديث في زماننا، فكيف بأحدِ أئمة العصر الذهبي للسنة؟!! = لكني أقول أخيرًا: هل يتصّورُ أحدٌ أن ناقدًا من النّقاد (دون مسلمٍ في العلم، فضلاً عن مسلم) كان يكتفي بالمعاصرة مطلقًا، دون نظرٍ منه إلى القرائن أبدًا؟!!).
أقول: هذا كلام من تشرَّب دَمُه وعظامه علم الحديث، فقَدَرَ لأهله قدرهم، ورفعهم إلى حيث لا يدرِك شأوَهم إلا مَن بلغ منزلتهم في عمق الفهم، و دِقة النظر. لاكما صنع أحد الباحثين حين نَصَرَ القول المنسوب للبخاري، ثم تنزَّل قليلاً فقَبِل الاكتفاء بالمعاصرة مع وجود قرائن تقوي احتمال السماع لأن الأولى الأخذ بها! وكأننا اليوم أولى باعتبار قرائن ثبوت السماع من أحد أئمة النقد وهو مسلم بن الحجاج!
لا أدري ماذا أبقينا للإمام مسلم من جلالة العلم حتى يمتاز به عن صغار طلبة الحديث! فنزعم أنه يكتفي بالمعاصرِة، والمعاصرِة فقط! والتي لا يَعجز أحدٌ من طلبة العلم اليوم أن يدركها لأول نظرة في كتب التراجم، فبماذا امتاز عنه الأمام مسلم إذا استويا في سهولة الوقوف على المعاصرة؟! والعجب لا ينقضي! فالإمام مسلم ٌ أحدُ جِلة علماء الحديث والعلل الذين أسسوا تعاطيهم مع هذا العلم الدقيق على مراعاة القرائن والشواهد والمعضدات = يأتي إلى أهم مسألة في علم الحديث، التي لأجلها قام سوق النقد، وتأسس علم المصطلح وهي (تصحيح الأحاديث) فلا يُعمِل فيها القرائن التي امتاز بها نُقَّاد الحديث عن سائر رواة الحديث، فضلاً عن غيرهم ممن ليس الحديث صنعتهم!
فإذا كان مسلم لا يعتبر القرائن عند (تصحيح الأحاديث) فلا أدري متى سيعتبرها؟!
¥