ضبطها مسلم يقوله: ((كل رجل ثقة روى عن مثله حديثاً وجائز ممكن له لقاءه والسماع منه لكونهما كانا في عصر واحد ... )) وجمعه بين ((جائز وممكن)) يشعر بأن المراد الإمكان الظاهر الذي يقرب في العادة، والأمثلة التي ذكرها مسلم واضحة في ذلك. والمعنى يؤكد هذا: فإنه قد ثبت أن الصيغة بحسب العُرف - ولا سيما عُرْف المحدثين وما جرى عليه عملهم - ظاهرة في السماع، فهذا الظهور يحتاج إلى دافع، فمتى لم يُعلم اللقاء فإن كان مع ذلك مستبعداً الظاهر عدمه، فلا وجه للحمل على السماع لأن ظهور عدم اللقاء يدافع الصيغة، وقد يكون الراوي عَدَّ ظهورَ عدمِ اللقاء قرينةً على أنه لم يُرِد بالصيغة السماعَ، وإن احتُمِل اللقاءُ احتمالاً لا يترجح أحد طرفيه فظهور الصيغة لا معارِضَ له، فأما إذا كان وقوع اللقاء ظاهراً بيِّناً فلا محيص عن الحكم بالاتصال، وذلك كمدني روى عن عمر ولم يعلم لقاؤه له نصاً لكنه ثبت أنه ولد قبل وفاة عمر بخمس عشرة سنة مثلاً، فإن الغالب الواضح أن يكون قد شهد خطبة عمر في المسجد مراراً.
فأما إذا كان الأمر أقوى من هذا: كرواية قيس بن سعد المكي عن عمرو بن دينار فأنه يحكم باللقاء حتماً، والحكم به في ذلك أثبت بكثير من الحكم به لشاميٍ روى عن يمانٍ لمجرد أنه وقع في رواية واحدة التصريحُ بالسماع).أ. هـ
وإنما أحببتُ أن أُحيل في نقل هذه النصوص على كتابَي الشيخ حاتم والشيخ الدريس لأُبيِّن للقارئ أنها نصوصٌ كانت حاضرة بين يدي الشيخ حاج عيسى صادَرَها ولم يعتبر تحريرَ أصحابها لمحل النزاع، زاعماً أنه خَطَأُ الشيخ حاتم وحدَه – على التسليم بكونه خطأً – دون أيِّ توجيه لهذه النصوص يَؤُول بها إلى صف الشيخ حاج عيسى.
وإن مما يؤسف له أن يزيد الشيخ حاج عيسى على المصادرةِ الانتقائيةَ في الاستشهاد بنصوص العلماء في المسألة، مع أن النصوصَ المخالفة له بين يديه يقرئها كما يقرأ ما يوافقه، في حين أنه لا يفصل بين النصَّينِ – الموافقِ والمخالفِ – سطرٌ واحد! وإليك مثالها في هذه المسألة:
قال: (وتطويل الشيخ في التدليل على اعتبار مسلم للقرائن لا يفيده في دعواه شيئا، لأنها دلائل اعتبار القرائن في نفي السماع وهو خارج عن محل النزاع كما سبق.
فإن قيل: هل هناك مَن نصَّ على خروجه عن محل النزاع؟ قيل: نص على ذلك ابن القطان كما نقله عنه الشيخ حاتم (صفحة 22)) أ. هـ
أقول: وإن قيل: هل هناك مَن نصَّ على (دخوله) في محل النزاع؟ قيل: نص على ذلك العلائي كما نقله عنه الشيخ حاتم (صفحة23)
فلماذا لم تُوقِف القارئ على هذا النص الذي ليس بينه وبين نص ابن القطان الفاسي سطرٌ واحد فإنه يَتْولُه مباشرة؟! ولماذا بعد ذلك لم تُجب عليه؟
أَلِكَي لا تَفسد عليك النتيجة التي تريد الوصول إليها من أن الشيخ حاتم تكلَّف شططاً بانفراده عن كل العلماء بدعواه أن مسلماً يراعي قرائن السماع!
وإذا كنتَ ترى في شرح الدريس لـ (إمكانية اللقاء ص332) جواباً يصرفها عن (قرائن السماع) فلماذا لم تُحِلْ عليه ليرى القارئ هل أصاب الدريس أم أخطأ وتكلَّف؟
أمَّا أن تُظهر للقارئ أن فهم الشيخ حاتم لرأي مسلم ليس له أيُّ نصيب من الدلالة في كلام مسلم أو غيره من الشارحين له = فهذا ظلمٌ للرأي الآخر.
مع أن كلَّ قارئ لكلام مسلمٍ وكلامِ الشارحين له لا يجد فيه إلا أمرين: المعاصرةَ، وأمراً زائداً على المعاصرة وهو: إمكان اللقي، فما المانع أن يَفهم أحدٌ أن إمكان اللقي يعني: قرائن السماع؟ ثم على افتراض خطأ هذا الفهمِ الأَوَّلي غيرِ المتَكَلَّف ألا يستحق الجواب لأنه فهمٌ وارد؟!
أمَّا الإعراض عنه وكأنه قلبٌ للنصوص عن حقائقها، وتعسُّفٌ في تحميلها ما لا تحتمل فلا ينبغي أن يعرَّجَ عليه بذِكرٍ ولا جواب = فمما لاينبغي في بحثٍ يزعم صاحبه أنه (نقض)، فما هو النقض إن لم يكن نقضَ أوَّلِ فهمٍ يَرِد على الذهن لأهم مسألة في الكتاب التي هي محل النزاع بينك وبين الشيخ حاتم في فهم كلام مسلم؟!
والعجيب أنك تزعم أن هذا الذي حرَّرته هو: محل النزاع عند كلِّ من تكلمَ في المسألة، ثم لا تجد من هؤلاء العلماء مَن ينص على أنه محل النزاع سوى ابن القطان فقط! في حين يتواردُ عددٌ من العلماء في نفس المسألة على ما ظاهره خلاف ذلك مما يؤيد قول مخالفك!
¥