حاتم، في حين أنهما تجنّبا تفسير الكلبي ومقاتل بن سليمان والواقدي وأمثالهم

وأمثالهم ([1])، بل لقد استعرضتُ كل ما رواه له ابن جرير في التفسير، فلم أجد فيه ما يُستنكر، بل عامة تفسيره متابعٌ عليه من أئمة التفسير في زمنه، كمجاهد وعكرمة وأمثالهما.

وفي هذا المعنى قِصّة الشعبي مع أبي صالح، فقد قال إسماعيل بن أبي خالد:

«رأيتُ الشعبي مرَّ بأبي صالح، فأخذ بأذنه فعركها، ثم قال: يا مَخْبَثَان، تفسر القرآن وأنت لا تقرأه». ومعنى قوله: «وأنت لا تقرأه»، أي: لا تحفظه؛ كما جاء في بعض ألفاظ الخبر. (العلل ومعرفة الرجال برواية المروذي وغيره: رقم 314، وتاريخ ابن معين برواية الدوري: رقم 3164، المعرفة والتاريخ للفسوي: 2/ 685، 785، وتاريخ ابن أبي خيثمة: رقم 2452، والضعفاء للعقيلي: 1/ 165، وتفسير الطبري: 1/ 86، والكامل لابن عدي: 2/ 70، وجاء عندهما بلفظ: وأنت لا تحسن تقرأ).

ولا شك أن لحفظ القرآن أو لجودة قراءته أهمّيته، لكنه ليس شرطًا من شروط المفسّر ([2]).

وهذا إسماعيل بن أبي خالد الذي روى هذه الحكاية عن الشعبي، وهو أخصّ تلامذة الشعبي وأوثقهم فيه، يكون هو نفسه أشهر وأكثر من روى تفسير أبي صالح، وكأنه لم ير في نقد الشعبي ما يقتضي ردّ تفسير أبي صالح، مع إجلاله وتعظيمه لشيخه الشعبي.

وكأني ألمح من عَرْك الشعبي لأُذُنِ أبي صالح، أن القصّة جاءت على وجه المزاح والدعابة! خاصةً أنهما قرينان في السنّ تقريبًا!!

وهذا كُلّه ليس له علاقةٌ بقبول رواية أبي صالح؛ لأن القبول لا علاقة له بعلمه في التفسير. لكن إيراد هذه الأقوال في ترجمة أبي صالح مع عبارات الجرح والتعديل، قد تعزّزُ في نفس الناظر بغير أناة قبول الجرح وتقدّمه عنده على التعديل. لكن بعد هذا البيان عن مكانة أبي صالح في التفسير، وبالتأكيد على أنه لا علاقة بين هذه العبارات ومنزلته في الجرح والتعديل = لا يبقى لهذه العبارات أثرٌ في تعزيز الجرح على التعديل ولا العكس.

فإذا عُدْنا إلى بقيّة عبارات الجرح، أجد أهمّها (بعدما سبق) ما جاء في التهذيب (1/ 416): «قال أحمد: كان ابن مهدي ترك حديث أبي صالح». فقد يُظنّ أن الترك هنا هو الترك الاصطلاحي، الذي يُقصد به شدّة الضعف. لكن الصحيح أن عبدالرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان لمّا كانا لا يرويان إلا عن ثقة أو مقبول الرواية عندهما ([3])، قيّد العلماءُ مَنْ رويا عنه، ومن تجنّبا الرواية عنه أو له. فيكون حينها من تجنّبا الرواية عنه غير مقبول الحديث عندهما، فقد يكون شديد الضعف، وقد يكون خفيفَ الضعف؛ لأن هذين الصنفين كليهما لا يُحتجّ بحديثهما. وقد يعبّر العلماء عن ذلك بأنهما رويا عن فلان وتركا حديثَ فلان، أو روى عنه أحدهما وتركه الآخر، والمقصود بالترك هنا ما هو أعمّ من الترك الاصطلاحي؛ لأن شرط هذين العالمين ترك الرواية عن خفيف الضعف وشديده.

ويبيّن هذا المعنى بوضوح النُّقول التامّة التالية:

قال الإمام أحمد في العلل (رقم 3289): «كان ابن مهدي لا يُحدّثُ عن إسماعيل عن أبي صالح شيئًا، من أجل أبي صالح، وكان يحيى بن سعيد يحدّث عنه، وكان في كتابي عنه عن سفيان عن السُّدِّي عن أبي صالح، فلم يحدثنا به [يعني: عبدالرحمن بن مهدي]».

وعَبّر عن هذا بلفظ آخر في موضع آخر، فقال (رقم 3309): «كان عبدالرحمن بن مهدي ترك حديث أبي صالح باذام، وكان في كتابي عن السدي عن أبي صالح، فتركه، فلم يحدثنا به عنه».

وقال في موضع آخر (رقم 4381): «كان عبدالرحمن بن مهدي لا يحدّث عن باذام أبي صالح».

فعبدالرحمن بن مهدي لم يقل عن أبي صالح «متروك الحديث»، وإنما ترك الحديث عنه؛ لأنه لا يحدث إلا عن مقبول الرواية مُحْتَجٍّ بحديثه، لا لأنه شديد الضعف عنده. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيميّة عن راوٍ: «وأمّا قَوْلُ من قال: تركه شعبة، فمعناه أنه لم يرو عنه. وشعبة، ويحيى بن سعيد، وعبدالرحمن بن مهدي، ومالك، ونحوهم، قد كانوا يتركون الحديث عن أناس لنوع شبهة بلغتهم، لا توجب ردّ أخبارهم، فهم إذا رووا عن شخص كانت روايتهم تعديلاً له، وأما ترك الرواية فقد يكون لشبهة لا توجب الجرح». (مجموع الفتاوى 24/ 349 - 350).

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015