ومن دلائل عدم اعتماده أيضًا أن الإمام النسائي لم يعتمده، فقد قال في السنن الكبرى (3/ 368 رقم 3295): «هو ضعيف الحديث، وهو مولى أمّ هانئ، وهو الذي يروي عنه الكلبي. وقال ابن عيينة، عن محمد بن قيس، عن حبيب بن أبي ثابت، قال: كُنّا نُسمي أبا صالح دُرُوْزَنْ، وهو بالفارسيّة: كذّاب؛ إلا أن يحيى بن سعيد لم يتركه، وقد حدّث عن إسماعيل بن أبي خالد عنه، وقد رُوي أنه قال في مرضه: كل شيء حدّثتكم فهو كذب».
فانظر كيف اكتفى بوصفه بأنه «ضعيف الحديث»، وهو الوصف الذي ذكره أيضًا في كتابه الضعفاء (رقم 74)، مع علمه بعبارة حبيب بن أبي ثابت. ثم انظر إلى استثنائه «إلا أن يحيى بن سعيد لم يتركه»، وظاهرها بيان سبب عدم اعتداده بهذا التكذيب. أمّا ما نقله في آخر ترجمته، فلا يخفى على أبي عبدالرحمن النسائي أنه من رواية الكلبي، ولذلك قدّمه بصيغة التمريض، ولذلك لم يعتمده أيضًا.
وأمّا ما نقله المزّي (تهذيب الكمال 4/ 7) من أن النسائي قال عنه: «ليس بثقة»، وهي عبارة جرح شديد من النسائي، ففوق كونه مخالفًا لما جاء في كتابي النسائي (السنن، والضعفاء)، فقد شكَّك الإمام الذهبي في صحّتها، حيث قال في السير (5/ 37 - 38): «وقال النسائي: ليس بثقة، كذا عندي، وصوابه: بقوي. فكأنها تصحّفت، فإن النسائيَّ لا يقول: ليس بثقة في رجل مُخَرَّج في كتابه».
وما أحسن كلام الذهبي هذا، خاصّةً مع إخراج النسائي له في المجتبى، مُبَوِّبًا على حديثه وحده (رقم 2043)، دون تعقُّبٍ منه بضعفه. وإنما تعقّب حديثًا آخر، كان يرى أنه لا يصح، في (السنن الكبرى)، كما نقلنا كلامه آنفًا.
وهذا التصرّف من النسائي يصلح أن يكون من نصيب من كان في آخر مراتب القبول؛ حيث إن الأصل فيمن أخرج له النسائي في المجتبى، دون إعلال لحديثه، أنه مقبول. وأمّا قوله عنه ضعيف، فلا يعارض تلك المنزلة، كما بيّنتُه في المرسل الخفي (1/ 309 - 311، 352)، من أن (ضعيف) وصفٌ قد يوصف به من كان في آخر مراتب القبول؛ لأن فيه ضعفًا موازنةً بالثقة. ويَكْثُر وصف المقبول بهذا الوصف إذا أخطأ، ويزدادُ عدد المقبولين الموصوفين بالضعف في أحكام من كان نَفَسُهُ حادّ، كالنسائي، على عَدَدِهم في أحكام الأئمة المعتدلين في ألفاظهم.
هذه هي أهم ألفاظ الجرح، وذكرنا أنّ من أسبابها رواية الكلبي التفسير عن أبي صالح، ثم دعواه أنه كذب في روايته.
كما أن من أسبابها أن أبا صالح لم يكن مبرّزًا في التفسير تبريز مفسّري عصره، من أمثال مجاهد وغيره من تلامذة ابن عباس. كما أنه لم يكن مبرّزًا في العلم كأئمة التابعين في زمنه، من أمثال الشعبي. كما أنه كانت له صنعة لم تكن من صنائع كبار العلماء، وهي تعليم الصبيان في الكُتّاب. فمِثْلُهُ إذا انتُقِصَ من علمه، أو استُخِفَّ بمعارفه، ومن أئمة التابعين = لا نستغرب ذلك. لكن لا يلزم من ذلك أن لا يكون له اعتباره في العلم، فإن البدر عند الشمس ينمحي نوره.
فإن «كان مجاهد ينهى عن تفسير أبي صالح» [كما في التاريخ الكبير للبخاري (2/ 144)، والكامل لابن عدي (2/ 70)، والجرح والتعديل (2/ 432)، لكنه جاء مطلقًا غير مقيد بالتفسير عند ابن أبي حاتم]؛ فإن لمجاهد (الذي فاق أئمة التابعين قاطبةً في التفسير) أن لا يراه أهلاً لذلك. خاصّةً أنه يُذكر عنه كثرة اعتماده على الصُّحُف، وأنه يأخذ عنها دون إكثار من الأخذ من العلماء، كما قال مغيرة بن مِقْسم: إنما أبو صالح صاحب الكلبي يُعَلّم الصبيان، (ويُضَعِّفُ تفسيره): قال: كُتُبٌ أصابها، (وتعجّب ممن يروي عنه). [أخرجه صالح بن الإمام أحمد كما في العلل رواية المروذي وغيره رقم 315، وأخرجه الفسوي في المعرفة والتاريخ 2/ 782 - 783، والعقيلي في الضعفاء 1/ 166]. فهذا الاستضعاف مقبول من إمام المفسّرين مجاهد، وهذا التعليل بالأخذ من الكتب له وجهه في زمنهم. أمّا اليوم وقبله بدهور، فلا يصح الاعتماد على هذه الأحكام لاستضعاف علم أبي صالح في التفسير. ولذلك نقل عنه تفسيره اثنان من جلّة التابعين، ورأياه أهلاً له، وهما إسماعيل بن عبدالرحمن السُّدِّي المفسِّر الكبير، وإسماعيل بن أبي خالد الأحمسي التابعيّ الثقة الحجّة الذي قال عنه العجلي: «كان لا يروي إلا عن ثقة». (التهذيب: 1/ 292). وأودع كثيرًا من أقواله في التفسير أئمة التفسير في كتبهم، كابن جرير وابن أبي
¥