وهذا السبب لنزول الآية الذي أورده ابن عدي، والذي يُفهم من إيراده إيّاه أنه مثالٌ لما يُستنكر من مرويات أبي صالح في التفسير = ليس فيه نكارة ظاهرة، بل قد خالفه غيره من أئمة الحديث، فقد أخرجه الترمذي (رقم 3214)، وقال: «هذا حديث حسن، لا أعرفه إلا من هذا الوجه من حديث السُّدِّي». (ووازنه بتحفة الأشراف 12/ 450 رقم 17999)، والحاكم وصحّحه (2/ 420) (4/ 53). وذكره عددٌ من المفسّرين عند هذه الآية، دون نكير منهم لها.
وانفراد أبي صالح عن أمّ هانئ بهذا السبب، وهو مولاها، لا غرابة فيه. على أنّ أصل القصّة ثابتٌ في الصحيح، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب أمّ هانئ. فقد أخرجه مسلم (4/ 1959 رقم 2527)، من حديث أبي هريرة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خطب أمّ هانئ بنت أبي طالب، فقالت: يا رسول الله، إني قد كبرتُ، ولي عيال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أحناه على ولدٍ في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده)).
وله شاهدٌ من حديث أمّ هانئ نفسها عند الطبراني في الكبير (24/ 436 - 437) والأوسط (رقم 4254، 5615)، بإسناد جيّد إلى الشعبي، عن أمّ هانئ رضي الله عنها. وأخرجه ابن سعد (10/ 146 - 147)، عن الشعبي، بالقصّة.
وقد جوّد أبو صالح مولاها الخبر عنها، كما في لفظه الآخر عند ابن سعد في الطبقات (10/ 147)، بإسناد صحيح إليه، حيث قال: «خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّ هانئ بنت أبي طالب، فقالت: يا رسول الله، إني مُؤْيمة، وبنيّ صغار. فلمّا أدرك بنوها، عرضت نفسها عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: ((أمّا الآن فلا))؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى أنزل عليه {يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن} إلى قوله {اللاتي هاجرن معك} [الأحزاب:50]، ولم تكن من المهاجرات».
ففي هذا الخبر بيانٌ للخبرين، وأن الآية لم تنزل في أمّ هانئ، ولكن كان فيها بيان حكمها، وهو أحد معاني السلف في قولهم: «نزلت في كذا»، أي في بيان حكم قصّة فلان أو تُخبر عن مثل ما وقع لفلان. (وانظر: المحرّر في أسباب النزول للدكتور خالد المزيني 2/ 816 - 818، فهذا التحرير يناقشُ ترجيحَه).
فهذا هو الخبر الثاني لابن عدي يتبيّن أنه لا نكارة فيه أيضًا، وأن ابن عدي إن قصد بإخراجه الاستدلال به على ما ذكره: من رواية أبي صالح لما لا يُتابع عليه في التفسير وما يُستنكر عليه فيه، كما هو الأصل من منهج ابن عدي = أنه استدلالٌ في غير محلّه؛ لأنه لا نكارة فيه.
وأمّا إن لم يقصد ابن عدي الاستدلال بالخبرين السابقين على مناكير أبي صالح في التفسير، وهذا خلاف الأصل، فلماذا لم يذكر ما يستدل به؟! فهذا أكثر دلالة على عدم صحّة ما ذهب إليه، لأنه فَقَدَ دليلاً واحدًا عليه، وأنه لم يجد حديثًا واحدًا يشهد لصحة قوله!
وممّا يؤكّد على نقص ما كان لدى ابن عدي في أبي صالح، قولُه عنه: «ولا أعلم أحدًا من المتقدّمين رضيه». فإن هذه العبارة المنقوضة بالواقع (كما يأتي)، تدل على النقص الذي سيؤدّي إلى خطأ التصوّر أيضًا عند ابن عدي رحمه الله.
على أن شيخ الإسلام ابن تيميّة قد تعقّب عبارة ابن عدي هذه، بقوله في مجموع الفتاوى (24/ 351): «وهذا كقول من قال: لا أعلم أنهم رضوه. وهذا يقتضي أنه ليس عندهم من الطبقة العليا، ولهذا لم يخرج البخاري ومسلم له ولأمثاله؛ لكن مجرّد عدم تخريجهما للشخص لا يوجب ردّ حديثه. وإذا كان كذلك، فيقال: إذا كان الجارح والمعدِّل من الأئمة، لم يُقبل الجرح إلا مفسَّرًا، فيكون التعديل مقدّمًا على الجرح المطلق».
لكن الذي يستوقف في شأن ابن عدي، أنه قد أورد عبارة قاسيةً في أبي صالح، ومع نقص تصوّره عنه، لم يعتمدها!
فقد أخرج ابن عدي (2/ 68)، والبخاري في الضفعاء (رقم 44)، والأوسط (3/ 60)، وغيرهما، عن حبيب بن أبي ثابت، قال: «كنّا نسمّي أبا صالح دروغ زن، وتفسيره كذّاب».
وقد جاءت في بعض المصادر «دروزن»، فانظر السنن الكبرى للنسائي (3/ 368).
والذي في المعجم الذهبي (فارسي-عربي) للدكتور محمد التونجي (295):
«دُروغ زَن: كاذب».
وهذا الوصف هو أشدّ ما جاء في أبي صالح، ولكن يعارضه معارضة قويّة قول من قبله (وهم من أجلّ الأئمة وأشدّهم تحرّيًا)، وقولُ من ضعّفه تضعيفًا خفيفًا.
¥