ـ[أبو المنذر المنياوي]ــــــــ[14 - 09 - 06, 01:55 م]ـ
أخي الكريم أبا محمود الراضي:
هناك فرق بين العلم الحاصل بخبر الآحاد، بين العمل به، فخبر الآحاد اختلف فيه العلماء من الناحية الأولى على أقوال سيأتي بيانها قريبا، واما العمل به فهو قطعي، ويعمل به في العقائد وغيرها.
قال العلامة الشنقيطي في المذكرة (ص/103) وما بعدها: (اختلف الرواية عن إمامنا رحمه الله في حصول العلم بخبر الواحد الخ … حاصل كلام أهل الأصول في هذه المسألة التي هي يفيد خبر الآحاد اليقين أو لا يفد الا الظن أن فيها للعلماء ثلاثة مذاهب:
الأول: هو مذهب جماهير الأصوليين أن أخبار الآحاد إنما تفيد الظن فقط ولا تفيد اليقين وهو مراد المؤلف بالعلم فالعلم هو اليقين في الاصطلاح وحجة هذا القول انك لو سئلت عن أعدل رواة خبر الآحاد أيجوز في حقه الكذب والغلط لاضطررت ان تقول نعم فيقال قطعك اذن بصدقة مع تجويزك عليه الكذب والغلط لا معنى له.
المذهب الثاني: انه يفد اليقين ان كان الرواة عدولا ضابطين واحتج القائلون بهذا بأن العمل بخبر الآحاد واجب والظن ليس من العلم حتى يجب العمل به لأن الله تعالى يقول: ((ان الظن لا يغني من الحق شيئاً)). والنبي صلى الله عليه وسلم يول: (إياكم والظن فإن الظن أكذب. الحديث.) وهذا القول بافادته العلم رواية عن أحمد وحكاه الباجي عن ابن خويز منداد من المالكية وهو مذهب الظاهرية.
المذهب الثالث: هو التفصيل بأنه احتفت به قرائن دالة على صدقة أفاد اليقين والا أفاد الظن ومثال ما احتفت به القرائن اخبار رجل بموت ولده المشرف على الموت مع قرينة البكاء واحضار الكفن والنعش. ومن أمثلته أيضاً أحاديث الشيخين لأن القرائن دالة على صدقها لجلالتها في هذا الشأن وتقديمهما في تمييز الصحيح على غيرهما وتلقي العلماء لكتابهما بالقول وهذا التلقي وحده أقوى في إفادة العلم من مجرد كثرة الطرق كما قاله غير واحد واختار هذا القول ابن الحاجب وإمام الحرمين والامدي والبيضاوي قاله صاحب الضياء اللامع وممن اختار هذا القول أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى وحمل بعضهم الرواية عن أحمد على ما قامت القرائن على صدقة خاصة دون غيره.
قال مقيده عفا الله عنه: -
الذي يظهر لي أنه هو التحقيق في هذه المسألة والله جل وعلا أعلم ان خبر الآحاد أي الذي لم يبلغ حد التواتر ينظر اليه من جهتين هو احداهما قطعي ومن الأخرى ظني ينظر اليه من حيث أن العمل به واجب وهو من هذه الناحية قطعي لأن العمل بالبينات مثلا قطعي منصوص في الكتاب والسنة وقد أجمع عليه المسلمون وهي أخبار آحاد. وينظر إليه من ناحية أخرى وهي هل ما أخبروا به مطابق للواقع في نفس الأمر فلو قتلنا رجلا قصاصاً بشهادة رجلين فقتلنا له هذا قطعي شرعاً لا شك فيه وصدق الشاهدين فيما أخبرا به مظنون في نفس الأمر لا مقطوع به لعدم العصمة. ويوضع هذا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة المتفق عليه: (انما أنا بش وأنكم تختصمون إلى فلعل بعضكم أن يكون الحن , بحجته من بعض فأقضى له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار فليأخذها أو ليتركها). فعمل النبي صلى الله عليه وسلم في قضائه قطعي الصواب شرعاً مع أنه صرح بأنه لا يقطع بحقيقة الواقع في نفس الأمر كما ترى , وأشار في المراقي إلى الأقوال في هذه المسألة بقوله في خبر الآحاد:
ولا يفيد العلم بالاطلاق ... عند الجماهير من الحذاق
وبعضهم يفيد ان عدل روى ... واختير ذا ان القرينة احتوى
وفي الشهادة وفي الفتوى العمل ... به وجوبه اتفاقاً قد حصل
كذاك جاء في اتخاذ الأدوية ... ونحوها كسفر والأغذية
ويوضحه أيضاً قول علماء الحديث في تعريف الصحيح أن المراد صحته في ظاهر الأمر.
تنبيه:-
اعلم أن التحقيق الذي لا يجوز العدول عنه أن أخبار الآحاد الصحيحة كما تقبل في الأصول. فما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد صحيحة من صفات الله يجب اثباته واعتقاده على الوجه اللائق بكمال الله وجلاله على نحو ليس كمثله شئ وهو السميع البصير.
وبهذا تعلم أن ما أطبق عليه أهل الكلام ومن تبعهم ن أن أخبار الآحاد لا تقبل في العقائد ولا يثبت بها شئ من صفات الله زاعمين أن أخبار الآحاد لا تفيد اليقين وأن العقائد لا بد فيها من اليقين باطل لا يعول عليه. ويكفي من ظهور بطلانه أنه يستلزم رد الروايات الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمجرد تحكيم العقل.
والعقول تتضاءل أمام عظمة صفات الله , وقد جرت عادة المتكلمين أنهم يزعمون أن ما يسمونه الدليل العقلي وهو القياس المنطقي الذي يركبونه من مقدمات اصطلحوا عليها أنه مقدم على الوحي. وهذا من أعظم الباطل لأن ما يسمونه الدليل العقلي ويزعمون أن إنتاجه للمطلوب قطعي هو جهل وتخبط في الظلمات.
ومن أوضح الأدلة وأصرحها في ذلك أن هذه الطائفة تقول مثلا: ان العقل يمنع كذا من الصفات ويوجب كذا منها وينفون نصوص الوحي بناء على ذلك فيأتي خصومهم من طائفة أخرى ويقولون هذا الذي زعمتم أن العقل يمنعه كذبهم فيه بل العقل يوجبه. وما ذكرتم بأنه يجيزه أو يوجبه كذبتم فيه بل هو يمنعه وهاذ معروف في الكلام في مسائل كثيرة معروفة , كاختلافهم ي أفعال العبد وجواز رؤية الله بالأبصار وهل العرض يبقى زمانيين إلى غير ذلك.
فيجب على المسلم أن يتقبل كل شئ ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بسند صحيح ويعلم أنه ان لم يحصل له الهدى والنجاة باتباع ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم فانه لا يحصل ذلك بتحكيم عقله التائه في ظلمات الحيرة والجهل وعلى كل حال فاثبات صفات الله بأخبار الآحاد الصحيحة واعتقاد تلك الصفات كالعمل بما دلت عليه من أوامر الله ونواهيه كما أنها تثبت بها أوامره ونواهيه وكذلك تثبت بها صفاته , وقد بينا أنها من احدى الجهتين قطعية ... )
يتبع بإذن الله =
¥